.د.عبدالله بن محمد الشعلان
التجربة السعودية:
وبعد أن تم استعراض تجارب سبع من دول العالم في كيفية تبني وتوطين التقنية آن لنا الآن أن نعرج على تجربة المملكة العربية السعودية لنسبر أغوارها ونستعرض أطوارها في كيفية تبني التقنية وتوطينها في المملكة بعد أن أصبحت قادرة ماديا (بفضل الله ثم وجود البترول واستثماراته) على الاستفادة من معطيات التقنية لتحريك وتنشيط العمليات التنموية المتسارعة وتجهيز البنيات الأساسية في الصناعة والزراعة والصحة والاتصالات والتعليم.
من المعروف أن التجربة السعودية دخلت هذا المجال منذ بدء تطبيق خطط التنمية الخمسية التي انطلقت مع بداية التسعينات الهجرية والتي اتخذت منها المملكة أسلوبا للتقدم ووصولا إلى تنمية اقتصادية ورقي حضاري عبر تخطيط تنموي متأن وصياغة خلفية واعية ينطلق منها ذلك التخطيط. لقد اتخذت الدولة من التخطيط أسلوبا للتنمية لتحقيق الأماني والوصول إلى الأهداف المرجوة من خلال مراحل تنموية شاملة بدءا من المرحلة الأولى قبل أربعة عقود ونيف، وقد كان ثمة خطط مرسومة وبرامج طموحة آلت الدولة على نفسها أن تسعى لتطبيقها وتنفيذها، ثم بدأت معطيات التنمية تترى بعد ذلك لكي تأخذ الدولة بزمام المبادرة في وضع البرامج وإدخال التقنيات الجديدة وتطوير العنصر البشري، وكان من الطبيعي أن تنبيء التجربة عن توافق عوامل النمو واستجابة المنطق الحديث وكان من أولويات تلك الخطط من الأولى وحتى الخامسة التركيز على إيجاد البنى التحتية والتجهيزات الأساسية المتكاملة فكانت الطرق المعبدة والاتصالات اللاسلكية والمطارات والمساجد والجامعات والمستشفيات والكهرباء والمياه والصرف الصحي، وكل ذلك أوجد من أجل المواطن وراحته وإسعاده وضمان رفاهيته. ونظرا للعامل «الديموغرافي» والوضع الجغرافي الذي تتميز به المملكة فكان إنشاء الكثير من الطرق السريعة والمطارات الحديثة والموانئ الرحبة يأتي في إطار مسؤولية الدولة في مواجهة كل التحديات، وكانت كل هذه النتاجات من آثار وإفرازات التقنية الحديثة حيث أدركت الدولة مع الثروة التي أفاء الله بها عليها في اكتشاف البترول أن التصنيع شيء أساس فبدلا من بيع البترول بسعر الخام فلا بد من تكريره وتصنيعه فكان إنشاء المجمعات والمرافق والمدن الصناعية العملاقة.
لقد كان من أهم لوازم التحديث والتطوير والتجديد هو الفهم الواعي والتقبل الجاد لتطويع التقنية في مجالاتها المختلفة، لقد صرفت المملكة بلايين الريالات لإرساء بنيتها الأساسية، وكان الهدف الأسمى لهذا الإنفاق السخي هو نقل التقنية ومن ثم توطينها أو زرعها أساسا ليسعد بها الإنسان الذي يعيش على أرضها، والإنسان هنا هو بلا شك العنصر الأساسي والمستهدف بغض النظر عن الآلة ذاتها وما تقوم به وتؤديه من وظائف ومهمات.
لقد اهتمت المملكة من جانبها اهتماما كبيرا بتوطين التقنية، وخطت خطوات واسعة في مجال التعليم وتكوين الكوادر الوطنية القادرة على توطين التقنية، فأصبح أعضاء هيئة التدريس والباحثون السعوديون يشكلون أغلبيةً عظمى في الجامعات السعودية، كما زادت مراكز البحث العلمي في كل من القطاعين العام والخاص زيادة مطردة، ومن أبرزها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وشركة أرامكو، وشركة سابك، والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، فضلا عن كثير من المؤسسات الأكاديمية والجامعية الأخرى.
والملاحظ أن عملية نقل التقنية لا يقصد بها الاستحواذ فقط على الأجهزة والمعدات بصورتها المجسدة، بل نقل المعارف التقنية ممثلة في المهارات المهنية والفنية والخبرات الإدارية والتنظيمية، أما توطين التقنية وتطويعها فهي العملية التي يتم من خلالها تنمية الملكات الذاتية للتعامل الفني مع الأجهزة والمعدات الحديثة وعمل التعديلات اللازمة عليها لتلائم طبيعة المجتمع وظروف البيئة المحلية.
وحتى تضمن المملكة نقل التقنيات الحديثة اللازمة لنجاح المشاريع التنموية، عملت على وضع حوافز مجزية لتشجيع قيام المشاريع المشتركة، ونجحت تلك التوجهات في تحقيق الكثير من الإنجازات العملاقة في المجالات الخدمية والإنتاجية كافة مقارنة بغيرها من الدول، ودون أن تضطر إلى إعطاء تنازلات تتعلق بنوعية التقنية والاتجاهات الفنية العالمية فيها، أو اختيار أنواع أقل تطوراً.
ويعد برنامج التوازن الاقتصادي، أحد أكثر الكيانات السعودية اهتماما بتوطين التقنية، باعتباره برنامجاً صناعياً استثمارياً طويل الأجل، يهدف إلى ربط شركات القطاع الخاص السعودية بالشركات الأجنبية وتمكينها من الاستفادة من التقنية العالية والمتطورة لدى الشريك الأجنبي ونقلها إلى المملكة وتوطينه بها.
كما أقامت المملكة شبكات اتصال واسعة تغطي جميع أرجائها، وعملت على بناء محطات لتحلية المياه المالحة وإنتاج الطاقة الكهربائية كمنتج مرافق، كما نجحت في إنشاء مدن صناعية قوامها أكثر من (2720) مصنعاً منتجاً تُستخدم فيها مختلف التقنيات الح ديثة مكنت من إرساء قاعدة صناعية راسخة كان لها أثر بارز في دعم الجهود لنقل وتوطين التقنيات الصناعية المتقدمة.
ولقد واكبت تلك الإنجازات في نقل التقنية المتقدمة جهود أخرى نحو النقل والاستيعاب والتطويع والتوطين، كان من أهمها التوسع الكبير في إنشاء المؤسسات التعليمية العامة والعالية، ومؤسسات التعليم الفني والتدريب المهني؛ لتخريج كفاءات بشرية من علماء ومهندسين وفنيين قادرة على التعامل مع التقنية واستيعابها وتوطينها، إضافة إلى تطوير المؤسسات الإنتاجية القادرة على توطين التقنية وتطويرها، وإنشاء العديد من مراكز البحث والتطوير في القطاعين العام والخاص وتوفير الخدمات المساندة من معلومات وتسجيل براءات اختراع ومكاتب استشارية هندسية، إضافة إلى رسم السياسات ووضع الخطط العلمية والتقنية لنقل التقنية وتوطينها وتطويرها.
كما اتجهت المملكة من خلال الشركات العاملة بها إلى تنمية وتعزيز الصناعات الإلكترونية وذلك من أجل تعزيز الاقتصاد الوطني والتقليل من الاعتماد على المصادر الأجنبية وتدوير الأموال داخل الاقتصاد المحلي والحد من استنزاف الموارد المالية في استيراد التقنية والمنتجات الإلكترونية العالية التكلفة وكذلك توفير تكاليف تشغيلها وصيانتها الأمر الذي يحسن من ميزان المدفوعات ويرفع الناتج الوطني الإجمالي إضافة إلى توطين التقنية المتقدمة وتطوير تقنيات مناسبة للظروف المحلية سواءً اكانت بيئية أو ثقافية أو اجتماعية.
ومن الخطوات الواسعة نحو توطين التقنية أنشأت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية بهدف إحياء العلوم في العالم الإسلامي، وقد افتتحت في 23 سبتمبر 2009، وتركز التوجه فيها بشكل خاص نحو التعليم العالي والبحث العلمي حيث تقدم فيها برامج في العلوم البيئية والبيولوجية والهندسية والرياضية والفيزيائية وعلوم الحاسوب. ولقد حققت الجامعة تقدما كبيرا في وقت زمني قياسي إذ تشغل حاليا مركزا متقدما كواحدة من الجامعات الأكثر بحوثا والأغزر إنتاجا من حيث الدراسات البحثية كما أعلن مؤخرا أنها تعتبر الأسرع نموا بين جامعات العالم النخبوية في مجال سجلات النشر والبحث والاقتباس وذلك حسب التصنيف العالمي لجامعة شانغهاي لعام 2015م.