حمّاد السالمي
* أمنية كانت تراودني منذ عدة أعوام؛ إلى أن تحققت لي دون سابق إعداد. تلكم هي زيارة الدرعية، والوقوف على معالمها التاريخية والأثرية. كانت زيارتي الأخيرة للرياض؛ زيارة عمل خاصة، إلا أن الأصدقاء والمحبين بقيادة أستاذنا الكبير (عضو عصبة الأدباء)؛ الأديب (عبد الرحمن المعمر)؛ أضفوا عليها مسحة من الكمال، والروعة والجمال، الذي يفقده عادة من يزور المدن الكبيرة، دون أن يتواصل مع أعلامها، فيتصل بجمالها ومعالمها.
* منذ ساعاتي الأولى بالرياض؛ وجدت نفسي وسط كوكبة من أدباء ووجهاء ومثقفين أفاضل، بقيادة وإدارة أبي بندر.
كنا نلتقي كل ليلة وكل ظهيرة، حتى نجح الصديق المهندس ندا الحربي؛ في استدراجنا وأخذنا إلى حيث الأصالة والتاريخ في العاصمة السعودية الأولى في الدرعية. على ضفتي وادي حنيفة، فبين البجيري والطريف؛ لقيتني أتنفس هواء غير هواء الشوارع الإسفلتية، والبنايات الإسمنتية. وأرى جمال المكان، وإبداعات الإنسان، تتوج الرؤية البصرية في أولى محافظات المملكة العربية السعودية في الدرعية.
* كانت معرفتي بالدرعية قبل اليوم؛ تنطلق من كتب المؤرخين، ومدونات المجغرفين، إلى أن أصبحت وجهًا لوجه؛ أمام واحدة من أهم وأجمل المعالم التراثية في المملكة. هنا في حيي البجيري والطريف على وادي حنيفة؛ تجري عمليات تأهيل مدروسة من قبل هيئة تطوير الرياض وأمانتها، مشروع وطني متكامل، بدا في مرحلة متقدمة، سوف يجعل من الدرعية التاريخية مركزًا ثقافيًا وسياحيًا، يقوم على خصائصها التاريخية، والثقافية، والعمرانية، والبيئية. ما يجري هنا هو ترميم للمواقع، والمنشآت الأثرية، وإعادة تأهيلها، وإنشاء المؤسسات الثقافية التراثية، وإضافة المنشآت الخدمية اللازمة لإطلاق النشاط السياحي الثقافي، والترويحي. وقد ظهر هذا جليًا في حي الطريف، وحي البجيري، وربطهما بشبكة من الطرق الموصلة، وتوفير مواقف للسيارات، وتهيئة مرافق خدمية، ومقاهي ومطاعم بطابع تراثي من البيئة.
* يكفي السائح الزائر لهذا المكان الساحر؛ أن يتجول في حي الطريف؛ عبر زنقات مرصوفة وسط متحف تراثي مفتوح، فيرى بأم عينيه: قصر سلوى، ومسجد الإمام محمد بن سعود، ومجموعة كبيرة من القصور والمنازل، إضافة إلى المساجد الأخرى، والأوقاف، والآبار، والأسوار، والمرافق الخدمية. ويقف على أعمال تجري حثيثة؛ لاستيعاب مؤسسات ثقافية ومتحفية، وأنشطة وفعاليات ثقافية تراثية، وتوثيق تراثي بصري ومساحي، وأثري، منها جامع الإمام محمد بن سعود، وقصر سلوى، وقصر إبراهيم بن سعود، وقصر فهد بن سعود، وقصر فرحان بن سعود، وقصر مشاري بن سعود، وقصر تركي بن سعود، وسور الدرعية القديم.
* وعلى الضفة الشرقية لوادي حنيفة في مواجهة حي الطريف؛ يقع حي البجيري؛ الذي بدا وقت زيارتنا بين الظهر والمغرب؛ مكتظًا بالزائرين بين رائح وغاد.. يتجه الحي لإبراز قيمه الثقافية؛ من خلال تفاصيل عمرانية تراثية وآثارية واجتماعية متراصة. تتوسط حي البجيري؛ ساحة كبيرة زاخرة بحياة صاخبة، وتنتشر على أطرافها؛ محلات تجارية مبنية على نسق حديث، وزنقاته وممراته مرصوفة بالحجر الطبيعي. يتوسط الحي جسر: (محمد بن عبدالوهاب) المخصص للمشاة، الذي ينقل الزوار إلى حي الطريف في الضفة الغربية من وادي حنيفة، والذي تتربع على سفحه الدرعية التاريخية، وشواهد أطلال قصر سلوى، وصولًا إلى الحي التاريخي الذي يشمل (12) قصراً، وبيت المال، ومتحف الخيول العربية الأصيلة. وتشمل هذه المنظومة التراثية في قلب الدرعية؛ حي سمحان، الذي يضم (36) مبنًى طينيًا تراثيًا، تُهيأ كلها لتكون وجهة سياحية جاذبة.
* العبور بين ضفتي وادي حنيفة بين حي الطريف وحي البجيري يتيح للزائر التمتع بمتنزَّه الدرعية. الذي يتميز بتكوينات صخرية منحدرة باتجاه الوادي، وغطاء نباتي، ومياه جارية، ويتوفر على طرق وممرَات، وهي عناصر كافية لتوفير بيئة مثالية للاستجمام.
* إن كل عنصر في هذا المكنز التاريخي في الطريف أو البجيري بالدرعية هو معلم ناطق بحد ذاته، فهنا متحف الدرعية، ضمن أطلال قصر سلوى، الذي يتخصص في عرض تاريخ الدولة السعودية الأولى وتاريخ قصر سلوى، وبه منظومة متكاملة من العروض المتحفية من لوحات، وأفلام وثائقية، ومعروضات تراثية، وقطع آثارية، ومجسمات، ورسوم توضيحية. ومن ضمن ذلك؛ توظيف أطلال قصر سلوى لعرض دراما قصصية تحكي قصة الدرعية صوتًا وصورة. هنا كذلك؛ أربعة متاحف متخصصة في حي الطريف، هي: متحف الحياة الاجتماعية، ومتحف الحرب والدفاع، ومتحف الخيل، ومتحف التجارة والمال، الذي يعرض جوانب الحياة اليومية، والعادات، والتقاليد، والأدوات المستخدمة، في فترة ازدهار الدولة السعودية الأولى. سيقام المتحف في قصر سعد بن سعود، والمباني المجاورة له.
* كنت قد كتبت مرات ومرات وقلت: بأن آثارنا في عموم بلادنا هي نفطنا القادم بعد النفط. (إذا كان النفط ثروة ناضبة، فإن الآثار ثروة نابضة). ها هي الدرعية تعود إلى الواجهة من جديد، نابضة بالحياة والجمال، من خلف مئات السنين، لتتواكب مع التوجه الواعي للدولة في استثمار الآثار والمعالم التاريخية سياحيًا، فهي واحدة من مئات وآلاف المواقع المهمة على قائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو، وقد تم تسجيل حي الطريف رسميًا في عام 2010م؛ كثاني موقع سعودي بعد (الحجر - مدائن صالح).
* لم يكن ميسرًا لمثلي الإلمام بهذه المعلومات التفصيلية عن جانب مهم من تاريخ الدرعية في حيي البجيري والطريف؛ لولا رفقتي للمختصين بالشأن الهندسي والعمراني على أرض الدرعية. شكرًا للمهندسين (ندا الحربي)، و(نايف الحرقان)، ولزميلهما المهندس (منصور العزاز)، والمهندسة (ندى العزاز).
* من دلالات الفهم الحضاري لأي مجتمع؛ درايته بآثاره، وعنايته بمآثره:
هذه (آثارنا) تدل (علينا)
فانظروا بعدنا إلى (الآثار)