د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
للمصطلح دورٌ أساسٌ في تكوين المعرفة، ولا يمكن أن تنهض أي ثقافة ويستقيم صرحها إلا إذا كانت قادرة على إنتاج معرفة خصبة جديدة، توجهها اصطلاحات واضحة الدلالة، وبالمقابل فإن هذه الثقافة نفسها مُعرَّضةٌ للتقويض والتفكك لأسباب كثيرة؛ من أبرزها اضطراب دلالة المصطلح، وتكاثر المصطلحات وتعارض مفاهيمها وعدم استمرارها، وإذا كان هذا يكشف عن الأهمية القصوى التي يحتلها المصطلح في مساحات العلوم والمعارف، فإنَّ هذه الأهمية تزداد إذا كان الحديث عنه يتم في سياق الدراسات الأدبية والنقدية؛ ذلك أنَّ له دوراً حاسماً وفاصلاً في تحديد كثير من المفاهيم المتداخلة أو المتشابهة، كما أنه يضطلع بدور محوري ومؤثر في ضبط المفهوم والتفريق بينه وبين الآخر، سواء أكان ذلك في سياق دراسة نقدية تنظيرية أم تطبيقية.
وقد تنبه كثير من النقاد إلى هذه الأهمية، فاشتغلوا على المصطلح النقدي، ونظروا إليه من زوايا متعددة، غير أنَّ إحدى الدراسات فضَّلت أن تخوض هذا الغمار من جانب جديد، واجهت خلالها كثيراً من المعضلات، في سبيل تذليل القراءة الصحيحة التي هي أساس الاستنباطات الصحيحة، إذ آثرت أن تنظر إلى التراث النقدي من وجهه الآخر الذي طالما عانى من الإهمال والإغفال، وهو جانب الخطأ والرديء، بسبب اقتصار العلماء بالنموذج الجيد، وانشغالهم بوضع المعايير التي تؤسس للجودة، والمصطلحات التي تعبر عنها.
ويحاول صالح آزوكاي من خلال دراسته: (مصطلحات التخطئة الشعرية في التراث النقدي) تسديد النقص الحاصل في تراثنا النقدي، إذ يرى أن كتب النقد قد أولت جل عنايتها لواجهة الجودة، على أساس أنَّ الذي يُبحث عنه ليس الرداءة وإنما الجودة، وذلك لما فيها من جانب نفعي، منطلقاً من أنَّ معرفتها تساعد المتقبل على تذوق النصوص والإقبال على نصوص دون أخرى، كما أنها تساعد المبدعين بوصفها مقاييس لهم عند الإبداع، وهو ما جعل الجودة مركزية، إذ باتت تُشكِّل القصد الأوحد لكل رؤية جمالية، وقد نتج عن هذا كله انعدام نظرية مخصوصة للرداءة، وهو ما يمثِّل خطورة كبرى في نظر المؤلف، إذ عن مركزية الجودة تأسس النموذج الذي تحكَّم في النصوص الأدبية ووجَّهها، وكل اختلاف عن ذلك النموذج (الجيد) عُدَّ رديئاً، فلم يُدرس وأهمل إهمالاً، واكتفي أحياناً بنعته بضد صفات الجيد.
وتأسيساً على هذا يرى المؤلف أنَّ البحث في واجهة الرداءة تكاد تكون مهملة، ومن شأنه أن يسعف في استكمال واجهتَي النقد الأدبي، ويبين الرؤية الجمالية في نسقها المعرفي والفكري المتكامل، إيجابا وسلبا، فبضدها تتميز الأشياء، مستدركاً أنَّ دراسته هذه لا تروم تأسيس نظرية مخصوصة في الرداءة؛ لأنَّ هذا أمر لما تتوافر بعدُ ظروف إعداده وعوامل إنجازه، غير أنَّ الخوض في موضوع التخطئة الشعرية قد يسهم في التأصيل لتلك النظرية، ووضع مدخل لها على أقصى تقدير، خاصة إذا وُلج البحث في النظرية النقدية من بابه، وفُتح الباب بمفتاحه.
وحتى تكون الدراسة أكثر عمقاً وأقوى ضبطاً يختار المؤلف ثلاثة مصادر من أبرز مصادر التراث النقدي، وهي (طبقات فحول الشعراء) للجمحي، و(الأغاني) للأصفهاني و(الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء) للمرزباني، ويعلل هذا الاختيار بأن هذه المصادر مسندة، وروايتها في الغالب هي الأقوى والأوفى متنا، إضافة إلى قيمتها الإخبارية، كما أنها في عمقها مدونة للأخبار العفوية التي تداولها الشعراء فيما بينهم، مما يجعلها ممثلةً للأصول التي نهض عليها بنيان النقدي الأدبي، إضافة إلى أنها تمثل ثلاثة أجيال في مسار النقد الأدبي، مما يوفر للمتن النقدي طابعاً من التنوع والشمولية.
وحين يختار المؤلف المصطلحات تحديداً لمعالجة هذا الموضوع يؤكد أنَّ ذلك إتيانٌ للبيوت من أبوابها؛ لأنَّ المصطلحات هي مفاتيح العلوم، ولأنها السبيل القويم نحو تمثُّل علم النقد الأدبي وفقهه وتجديده، ولأنَّ خطاب النقد الأدبي التراثي منفتحٌ على غيره من الحقول المعرفية، والمشاركون فيه متنوعون متعددون، وإسهامهم قد تكون بإنتاج مصطلح أو بتقبله.
ويصل بعد كل هذا إلى الكشف عن الهدف الرئيس للدراسة التي يوجِّهها هاجس تأسيس (علم تجريح) في النقد الأدبي، محاذاة لعم التجريح في الحديث، لوجود أكثر من وشيجة من وشائج التواصل والتداخل المصطلحي والمنهجي بين العلم بالشعر وعلم التجريح، كما أنَّ من أهدافها الإسهام في تأصيل منهج الدرس النقدي، قوامه التحري في فقه المصطلح، وتمثُّل حمولته المعرفية والحضارية، وقراءة نصوصه قراءةً تأصيلية؛ بحثاً عن النظام الذي يشده، وتمحيص مشكلاته على محك السياق الثقافي الفطري لمرحلة ما قبل التقعيد النقدي.
وتحمل الدراسة هم البناء، بل إعادة بناء النقد الشعر عند العرب، ومراجعة تدبير بيته الذي يظهر أنه مسكونٌ بعدد غير قليل من الآراء والأحكام والقواعد الموجهة توجيهاً معيارياً لا يتلاءم مع السياق المقالي والمقامي للشعر القديم، بما في ذلك اتهامه بجملة من العيوب التي هي في أمس الحاجة إلى نوع من الفحص والمساءلة والنقد.