يقولون: الجنادرية هي تجميع وحدات جزئية من حياة الآباء والأجداد؛ لكي نحصل في النهاية على صورة حية لحياة هؤلاء الآباء والأجداد.
أقول هذا الكلام وأنا أفكر في الحديث من أين أبدأ بالحديث عن وطني؟! وإلى أين سيتجه بي الحديث المليء بالعاطفة والحب له ولمليكه الحاضر الحازم العازم الآمل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - أيده الله -.
سيقول أحدهم: هذا وطنك، والجنادرية هي تراثه الأصيل، وهذا المليك الاستثنائي، صاحب الصولة والجولة، القادم من مجد الزمان، وستبالغ بالحديث عنه، وعن تقدم حضارة هذا الوطن وتطوره؟!!..
لهذا الأفضل من (آلاف الكلمات) أن أعود إلى الصورتين اللتين تساويان آلاف الكلمات، وبإمكان أي شخص في هذا العصر الإلكتروني أن يذهب إلى محرك البحث (قوقل) ليرى بعينه عبر صورتين ما الذي فعله السيف الذي تمايل معه مليكنا سلمان على صوت دق الطبول في العرضة، الذي يشعر بالنصر؟! وبالصورة الأخرى ما هو واجبنا نحو الوطن الذي تماوجت مشاعر مليكنا سلمان في تقبيله العلم الخاص به، الذي هو رمز الوطن وشعاره ورايته؟!
صورة بالأبيض والأسود: دولة متواضعة.
صورة بالألوان الناصعة: دولة مذهلة وحديثة.
صورة المملكة العربية السعودية بأزقتها ومبانيها.
صورة المملكة العربية السعودية التي تضاهي أجمل دول العالم وأكثرها حداثة.
لا تستمعوا لي؛ فأنا ابن هذا الوطن؛ وأعشق كل ما فيه.. أنا أحد أعضاء الدولة السعودية، أنا ابن موحد هذا الوطن، الذي رسم لوحة الوحدة، وهندس أبعاد التوحيد، وأعلى لبنة الكيان، وغرس بنية التكوين.. صقر الجزيرة وفارسها عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود ـ طيب الله ثراه وأكرم مثواه ـ. اذهبوا إلى الصور البديعة لتخبركم عن كل الحكاية، ولتروا بأعينكم ما هي المملكة العربية السعودية، وما الذي كان يعنيه لنا الملك الموحد المؤسس الوالد؟
إني أرى الماضي بكل شموخه
وجلاله متألقا في الحاضر
وأرى القرون تمر بي مبهورة
بجمال حاضرنا المجيد الزاهر
«ومحمد بن سعود» يحمل راية
قد توجت باسم الإله القادر
وعلى خطاه تسير ألف كتيبة
وكتيبة فوق اللظى المتطاير
وأرى الغزاة الحاقدين تدفقوا
يلغون في نبع النجيع الطاهر
وتمر بي الذكرى وفي أطيافها
إيمان محتسب، وعزم مصابر
حتى أتى «عبدالعزيز» فأشرقت
كل الربوع وطاب لحن السامر
وتألق الفجر النضير لأمة
ظمئت إلى الصبح الندي الناضر
ومضت مواكبنا تسير بحاضر
متهلل وبخير ماض غابر
لكن تلك ليست كل الحكاية، ولكي تكتمل لا بد من التوقف مليًّا أمام اللمحات العبقرية الأصيلة والثاقبة التي جعلت الملك فهد بن عبدالعزيز والملك عبدالله بن عبدالعزيز - رحمهما الله - يدركان أن سباق الهجن السنوي الذي ينظمه الحرس الوطني ليس مجرد سباق رياضي عادي، بل هو في الأساس والجوهر ظاهرة ثقافية تراثية، تعبِّر عن ملحمة الإنسان والزمان والمكان في تواصلها واستمرارها على أرض الوطن.
فالجمل العربي ليس مجرد حيوان عارض أو ثانوي في حياة إنسان الجزيرة العربية، بل هو رفيق رحلة طويلة، بواسطته تنقل من أقصى الجزيرة إلى أدناها، ومن شمالها إلى جنوبها، من وبر شعره نسج خيمته التي آوى إليها واستظل بظلها، ومن لحمه أكل، ومن لبنه شرب وسقى أبناءه.. وعلى ظهره خرج ليبحث عن رزقه، ويقابل أحبابه، ويواجه أعداءه.
وإن كانت هذه الرحلة قد سارت بالإنسان نحو التقدم والتحضر، وقلصت وهمشت من دور الجمل، وجعلت منه مجرد أداة في سباق الهجن، فإن الذاكرة الجماعية للأمة تعرف له دوره، وتستحضره، وتحافظ عليه كجزء من التراث الباقي الذي لا يمكن محوه. فالتراث هو تركة الآباء والأجداد من المعتقدات والعادات والتقاليد والمعارف، هو كل الممارسات المادية والروحية، والأنماط السلوكية في محيط العمل والفن والإبداع والعلاقات الاجتماعية.
من هذا الخضم المتلاطم من الأفكار والمعاني التراثية المعاصرة أدرك الملك فهد بن عبدالعزيز والملك عبدالله بن عبدالعزيز ـ رحمهما الله ـ أن هذا السباق يصلح أن يكون بؤرة تتمحور حولها نشاطات ثقافية تراثية ومعاصرة، تربط اللحظة الراهنة بالماضي السحيق والمستقبل المشرف في إطار مهرجان للتراث والثقافة، ويقدم للأجيال الجديدة التي نشأت في حضارتنا الحديثة صورة لحياة الآباء والأجداد، ويغذي ثقافتها المعاصرة.
وكانت نقطة الانطلاق وشرارة البداية هي صدور الأمر السامي بإنشاء قرية متكاملة للتراث على الطراز الشعبي في ضوء التقاليد العربية الأصيلة والقيم الإسلامية المجيدة، على أن يشرف عليها الملك عبدالله بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ، وتسلم سموه راية الفكرة، وكعادته أجرى فيها ثاقب نظره، وبلمحات شاملة أخذت الفكرة في التبلور والسطوع، وأصبحت منهجًا مدروسًا ونسقًا من الأفكار ذات الأهداف النبيلة.
سألت نفسي من أين يمكن أن أبدأ الحديث عن الجنادرية، ونحن نعيش المهرجان الوطني للتراث والثقافة الثاني والثلاثين منذ يوم الأربعاء الفائت؟
هذه روافد الخير والعطاء، نماذج ماثلة، تتدفق شلالاتها الهادرة عذبًا نميرًا، يروي الجذور الأصيلة، فتزداد رسوخًا ومتانة، ومن ثم اشتداد سيقانها الباسقة شموخًا وعزة؛ لتتفرع أغصانها الفارعة أفنانًا خضراء، تلتوي في عناق وألفة ناثرة أزهارها المضمخة عطرًا فواحًا، يضوع أريجًا زكيًّا، بل ثمرات تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
هكذا انطلقت فعاليات مهرجان الجنادرية الثاني والثلاثين للتراث والثقافة في عاصمة الحب والتراث والسلام والفكر، ودرة المدن العربية، برعاية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله -، كرسم يحكي مسيرة قافلة، تقودنا في رحلة ممتعة وملهمة، تستطرد عبر تاريخ الآباء والأجداد؛ لتنداح بها معارفنا، وتتأصل معها تجاربنا؛ فهي نتاج خصب، يمثل سنوات طويلة من الجهد والعناء والخبرة.
الجنادرية أصالة عامرة، والأصالة مركب يتضمن التراث الاجتماعي بكل أنماطه وسلوكياته، بل يجسد ما يحمله ابن هذا الوطن المبارك الطاهر في عقله ويده من مفاهيم وأفكار، وقيم وأخلاق، وفنون ومهارات حرفية ومهنية.
والجنادرية تأصيل يستلهم فيه أثمن المعاني، ويستقى منه أغلى التجارب؛ وذلك لبناء حاضر زاهر، ورسم مستقبل زاخر.
والجنادرية إطار يبلور مدى الحاجة إلى وحدة ثقافية وفكرية، تطهر الفكر والثقافة من الشوائب، وتقرر الانسجام الاجتماعي الشامل، وتقرب الاتجاهات والمفاهيم وأساليب السلوك بين الشعوب الإسلامية، خاصة في ظل هذا الزخم الهائل من حملات الغزو الثقافي والفكري، عبر وسائل الاتصال العالمية والتقنية الحديثة.
هذه هي الجنادرية أصالة ومعاصرة، فكر وثقافة، تراث وتجديد.
الحديث عن الجنادرية يعني الحديث عن رجل المملكة العربية السعودية الكبير، ورجل مرحلتها وحزمها، وعزمها وأملها، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ـ متعه الله بالصحة وأمد في عمره، وأبقاه ذخرًا لوطننا وشعبنا وأمتنا العربية والإسلامية ـ هو حامي التراث، والد الجميع في دعم التراث ومؤسساته وصون مفرداته ومكوناته؛ كونه الوعاء الذي يقدم التاريخ من خلاله، وكونه النواة الحقيقية للثقافة الأصيلة، والمعاني المختزنة في ذاكرة المكان والإنسان السعودي.
أما ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ـ يحفظه الله ـ فلقد قيضه لهذا الوطن أميرًا شابًّا، استطاع أن يبحر بسفينة الوطن على الرغم من كل العواصف والأنواء، وأن يعمل على إصلاحات مهمة تمت، وأعمال كبيرة أنجزت، وتاريخ مضيء، كتب لنا وعنا من جديد، وتحوُّل وطني في ظل الرؤية السعودية 2030 قادر على أن يضعنا في مكاننا الصحيح والمأمول بكل ثقة. وللإنصاف، فإن ما أبداه سموه من عزم وقوة، وما أظهره من شفافية وصلابة، وما سجله من مواقف، لا يمكن معها إلا أن ننحني عرفانًا وتقديرًا له. ومن تلك الأحلام تلك التي أشار إليها (تنمية التراث الوطني)، من خلال التخطيط لبناء المتاحف وتطويرها لزيادة الثقافة التراثية لدى مواطني هذا الوطن الكريم وزائريه بما تحويه المملكة مهبط الوحي ومنبع الإسلام، الذي انتشر منها إلى أصقاع العالم دينًا وثقافة وحضارة. ولا أحسبني
سأخوض بما يحتويه الوطن من كنوز تراثية، وما ستدره من مال وثروة؛ فهناك دول كثيرة، حباها الله بمداخيل هائلة من التراث، وهي أقل منا في بعضها تاريخًا وتراثًا وحضارة؛ وعليه سندرك ما كان سمو ولي العهد يقصده من طرحه الثمين حول ضرورة وزيادة الاهتمام بتراث هذا الوطن.
يبالغ البعض أحيانًا في نعت من يقدرون ويحترمون ويحبون، وأنا أحمل لقيادة هذا الوطن التراثي ـ وقاه الله صروف الشر وحماه ضروب الخطر، بل ألبسه حلل المجد الفاخرة، وأسبغ عليه آلاء السيادة والارتقاء ـ كل ذلك، لكنني لا أبالغ فيما أقول، بل إن مفردات لغتي تخونني، وأنا أحاول تعداد صفاتها وسرد مناقبها، والذين يعرفون قيادة الوطن عن قرب هم أكثر الناس تقديرًا لما أقول، شأنهم شأن كل مواطن ومقيم على هذه الأرض الطيبة؛ فللملك الوالد سلمان مكانة خاصة في القلوب بفضل خصلتين منحهما الله له: الحزم ورؤية التراث أيًّا كان نوعه.
وهاتان الخصلتان جلبتا حب الشعب للأب القائد عاهل هذا الوطن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.
لم يعد المهرجان الوطني للتراث والثقافة مهرجانًا عاديًّا، بل صار مهرجانًا عالميًّا؛ وكل ذلك بفضل الرؤية التي رأت من تراث هذا الوطن دليلاً حضاريًّا حيًّا على هوية الأمة الإسلامية، وشخصية الشعب السعودي المسلم، وصيانة التراث الثقافي والمعاصرة الحضارية التي تعكس ملامح وسمات المملكة العربية السعودية التي انطلقت منها رسالة الإسلام؛ فهي موئل الدعوة ومركز إشعاعاتها، ومعهد اللغة العربية وآدابها.
هذا ما يراودني وأنا أعيش احتفال الوطن وأبنائه بالجنادرية الثانية والثلاثين.
أيا رَبْعُ هذا اليوم يوم تراثنا
سنحميه من أعدائه.. والتبدّد
تفديه بالأرواح من كل عابث
خصيم.. نغذي روحه بالتجدّد
سنطريه ما عشنا ونشدو بفضله
ونذكره في موعد بعد موعد
* للملك سلمان مكانة خاصة في القلوب بفضل خصلتين منحهما الله له: الحزم ورؤية التراث
* ولي العهد بالتراث.. كتب لنا وعنا من جديد
* لم يعد المهرجان الوطني للتراث والثقافة مهرجانًا عاديًّا، بل صار مهرجانًا عالميًّا
* الجنادرية.. عندما تنداح المعارف.. وتتأصل معها التجارب