لا أحد يستطيع أن ينكر أن جيل ما قبل ثورة الاتصالات اللا سلكية والرقمية كان جيلاً أكثر صحة بدنية وعقلية ونفسية وأطول عمراً من أعمار الأجيال التي جاءت من بعده، لا سيما جيل اليوم الذي يعاني من السمنة وضعف النظر وانحناء العمود الفقري وآلام الركبة والمفاصل والرقبة. إنني أتذكر جيداً عندما كان جيل الثمانينيات والتسعينيات من القرن الهجري الماضي جيلاً قوي العضلات، ثاقب النظر، وصافي الذهن، وسريع الفهم والإدراك، ولديه القدرة على التحليل المنطقي لعواقب الأمور ومصادر الخطر. كان جيلاً أكثر حذراً مما قد يلحق الضرر بعقله وبدنه. كما لا يستطيع أحد أن ينكر أن جيل القلم الأول كان ولا يزال أكثر سرعة ومهارة في الكتابة والقراءة من جيل الجوال والآيباد والدفاتر الإلكترونية، حيث حل اللمس بالأصابع محل القلم والفحم والطباشير. أعرف اليوم بعضاً من حاملي شهادات الماجستير والدكتوراه الذين يعانون من سيل من الأخطاء الإملائية والنحوية أثناء الكتابة والخطابة. وللأسف أن بعضهم يرأس اليوم أقساماً علمية ومدارس وإدارات ومنظمات مختلفة. ومنهم من يعتمد اعتماداً كلياً على سكرتير أو موظف لتصحيح الأخطاء اللغوية وكتابة الصياغة النهائية نيابة عن المدير أو الرئيس أو العميد. وكنت شخصياً أعيد صياغة ما كتبه مسؤول بدرجة دكتور في مؤسسة أكاديمية, فشعرت بالدهشة لهول ما رأيت من الأخطاء الفاضحة في المفردات والأسلوب. فكيف ننقذ جيل اليوم - كباراً وصغاراً - من خطر برامج التواصل المسؤولة عن البدانة في البدن والهشاشة في العظم والبشاعة في خط القلم؟
مما لا شك فيه - ووفقاً لدراسات علمية مثبته - أن لوسائل الاتصال الحديثة خطر مباشر على المخ وتقوّس العمود الفقري وآلام الظهر والمفاصل والعيون نتيجة للذبذبات الكهرومغناطيسية المنبعثة عبر منافذ أجهزة الجوال والآيباد وغيرها من الأجهزة الذكية. ونعلم جميعاً أن مدمني برامج التواصل قد فقدوا القدرة على ممارسة رياضة المشي بشكل يومي أو حتى أسبوعي. وإن رأيت أحدهم يمارس المشي فغالباً ما تراه مطأطأ الرأس, يمشي بخطوات بطيئة وعيناه شاخصتان في شاشة جهاز خلوي يمسكه بإحدى يديه، وفي أذنيه سماعتان يتدلى منهما أسلاك متصلة بالجهاز ذاته. إن كثيراً منهم يعاني من تراكم الدهون والتهاب العضلات بدءاً من أسفل الظهر ومروراً بالركبتين ثم صعوداً إلى الكتفين والرقبة والعينين والأذنين. لقد أصبحوا مدمنين على برامج التواصل إلى درجة أن كثيراً منهم غير قادر على مقاومة رغبته في استخدام الجوال أثناء القيادة مما تسبب في وقوع حوادث كثيرة على الطرق أدت إلى خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات.
كما أن مدمنات التسوّق سابقاً أصبحن اليوم في ظل التقنيات الحديثة مدمنات على تصفّح مواقع تويتر وفيس بوك وسناب شات وغيرها مما أسهم في تدني مستوى القدرات الحركية والذهنية وبالتالي زيادة معدل البدانة لديهن نتيجة لوضعية الجلوس الخاطئة والتصفح لوقت طويل جداً. ولذلك أصبح العقل لدى البعض وعاءً أو تجويفاً مثقلاً بسيل المعلومات غير المفيدة وغير المتوافقة مع الثوابت والمبادئ والقيم. فظهرت في مجتمعنا وللأسف عقول مستهلكة أو مستقبلة لفنون وجنون المبالغة والدعاية والتسويق والتجريح والتشهير. الكل يعلم كذلك أن للاختلاط في الفضاء الإلكتروني عواقب مدمرة على النفس والسمعة والكرامة. ولا يخفى على أحد ما تم ويتم تداوله ونشره من مقاطع يوتيوبية خادشة للحياء وفاضحة للسمعة ومهينة لعزة النفس والكبرياء. ومن هنا لا بد من التفكير والعمل بما يضمن سلامة أفراد المجتمع من ضلالات العقل ومغريات النفس وبالتالي حمايته من الانزلاق نحو أنفاق مظلمة تديرها خفافيش الظلام بطرق ممنهجة لاصطياد ضحاياها والقذف بها إلى شبكات الابتزاز والنصب والاحتيال.
من هنا أرى أنه من المفيد تعطيل عمل برامج التواصل الاجتماعي في أوقات محددة وإعادة تفعيل عملها في أوقات معينة خلال اليوم. وبذلك نقوم بتحفيز العقل على التفكير وإنعاش بواعث المواهب الكامنة من خلال دفع الناشئين لممارسة النشاطات البدنية والمهارات الذهنية بما ينعكس إيجابياً على صحة الأبدان وسلامة العقول. ولأجل حماية المجتمع من الأضرار الناجمة عن فرط استخدام الأجهزة الذكية لغايات التواصل الاجتماعي ولأجل توجيه الطاقات البشرية إلى العمل الفكري والبدني وتوظيفها توظيفاً سليماً، فينبغي أن نتجه إلى أفق جديد نبحث من خلاله عن إيجاد وسائل بديلة تواكب روح العصر وتكون جاذبة لبيئة محفزة على الإبداع والتأمل والتفكير في فضاء واقعي بعيداً عن بيئة إلكترونية افتراضية تعج بالمؤثِّرات السلبية المستهلكة للوقت والملوثة للفكر والمدمرة للصحة.
إنني أناشد صنَّاع القرار والمسؤولين والمعنيين بالصحة والتقنية والتربية والتعليم بالتدخل لوضع إستراتيجية وطنية ترفع شعار «الصحة والسلامة أولاً» لحماية أبناء مجتمعنا والتصدي لمسوّقي السلع المغشوشة وناشري الفتن والإشاعات الملغومة والأفكار المسمومة. كما أنني أنذر أولياء الأمور وربات البيوت من مغبة «ترك الحبل على الغارب» والإفراط في استخدام برامج التواصل الاجتماعي المسؤولة عن ضعف القدرات الذهنية والمهارات اليدوية والبدنية.