عبدالوهاب الفايز
في مهرجان الجنادرية هذا العام استمر المبدأ الوطني النبيل لتكريم المتميزين الذين يخدمون بلادهم في مختلف المحافل، ومن بين المكرمين هذا العام الأستاذ تركي السديري، يرحمه الله، ومسيرة هذا الرجل تستحق التكريم الوطني من قائد البلاد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، يحفظه الله، وهو الأعرف والأقرب لمسيرة الرموز الفكرية والثقافية والإعلامية، وتكريم رجال الدولة ومن يأتون في إطار القيادات الفكرية هو تكريم لكل من يخدمون بلادهم، والوفاء للرواد بدأه الملك المؤسس ويستمر ضمن ثوابت وأدبيات الدولة.
الأستاذ تركي السديري رحل وترك لنا مسيرة مهنية ثرية في كل جوانبها، حافلة بالإنجازات وأيضاً.. بالكثير من المعاناة، وتحتاج إلى الإنصاف والتدوين عبر مشروع يجمع إنتاجه الفكري المكتوب والمرئي والمسموع، ولعل مؤسسة اليمامة الصحفية تبادر لإنجاز هذا المشروع.
بالتأكيد سوف تتجدد المناسبات التي تذكرنا بهذه المسيرة، بالذات لمن عملوا قريباً منه، ففي العشرين عاماً التي قضيتها ضمن أسرة تحرير جريدة الرياض، كانت التجربة مجالاً واسعاً للتعلم والترقي المهني، وكانت أيضاً مجالاً رحباً، في ظل وجود تركي السديري، لتعلم قيم ومبادئ (الصحافة الجادة) التي تحترم عقل القارئ، وتهتم بأولويات الدولة والمجتمع وضوابط وأخلاقيات المهنة. لقد كنت شاهداً على التزام تركي السديري بهذا المبدأ الرصين الجاد، والتزام هذا المبدأ لم يكن مريحاً للراحل، فقد كلفه الكثير من العناء الذي دفع ثمنه من صحته وعلاقاته وحقوقه، ولكنه ثمن كبير يدفعه الكبار برضى وقبول وراحة ضمير.
لقد اهتم الراحل الكبير بالقيم الأساسية التي ينبني عليها العمل الصحفي، بالذات النزاهة والمصداقية واحترام وعي القارئ، وكان يحرص على هذا المبدأ ويتابع تطبيقه ولا يتساهل في الإخلال به، وكان هذا مصدر غضبه وثورته الذي لا يستطيع تجاوزه حين يقف أو يعلم بحالة إخلال بقيم وأخلاقيات العمل، وكان هذا الجانب من أكثر الأشياء المريحة حين العمل معه، فالنزاهة والتجرد من الذات يقدرها ويثمنها الأستاذ تركي فيمن يعملون معه، ويضعها في مقدمة القيم الأساسية لبيئة العمل وللحياة.
أيضاً من الجوانب المريحة في شخصيته الجانب الإنساني الذي يمارسه في حياته ومواقفه واستجابته لأصحاب الحاجات الذين لا يتردد في الوقوف معهم، وهناك الكثير من القصص التي تروى في هذا الجانب.
أيضاً كان الجانب الإنساني يتدفق في حياة الأستاذ تركي في نواحٍ أخرى بالذات في البعد عن الشكليات والنزوع إلى البساطة. هذا البعد تميز به ولا يخطئه من عرفه. شخصيته المتواضعة البسيطة الزاهدة في الشكليات تأتي تلقائية بدون تكلف. فِي مرات عديدة كنا نذهب إلى مناسبات يدعى لها رؤساء التحرير، وحينما لا نجد من يستقبلنا حسب ما تجري به طبيعة المناسبات العامة، كان لا يتقدم أو ينزعج، بل يذهب إلى أقرب كرسي ويجلس، وعندما يهم أحدنا بالبحث عن المنظمين، يسحبه قائلاً: (تعال أجلس خلصنا.. كله وحد!). وهذا الجانب الإنساني في شخصيته ينعكس على ما يطرحه في مقالاته وأحاديثه، وهو المستودع الواسع الذي تشكلت منه ثقافته.
لذا كان الأدب والشعر والرواية والتاريخ الأقرب إلى نفسه في القراءة، إنه الأديب الذي خطفته الصحافة. كان، رحمه الله، يتمنى لو انقطع إلى الكتابة الأدبية، وسمعتها منه مرات عديدة، وكان يتمنى أنه لم يعرف الصحافة بحيث تأخذه الأقدار إلى التفرغ للرواية وفضاء الفكر والأدب. أذكر قلت له متمنياً أن يرتب وقته ليكتب رواية تقدم المسافة الحضارية التي قطعتها بلادنا. كان جوابه: أصعب شيء أن تعمل في مهنة تكون (جزءاً من دمك) وتأكل وقتك، ويقصد الصحافة. وحلم التفرغ للأدب الذي حالت دونه ظروف الحياة وطبيعة المهنة.. ظل هذا الحلم يتسلل إلى مقالاته وطبع روحها.
في شأن آخر، من الأمور التي تزعجه وتجعله يغضب نشر الأخبار أو الموضوعات أو المقالات التي تؤثر على نسيج الوحدة الوطنية، وعلى مبادئ التعايش والسلام الاجتماعي، وبطبيعة الحال هذه من الأسس والمبادئ التي يقوم عليها أداء الإعلام السعودي، والأستاذ تركي كان يضعها المعيار والهدف الأول الذي يجب أن يمارسه ويكرسه عمل التحرير، وهذا يعزز موقف الصحيفة الجادة.
أيضاً من الأمور النبيلة التي يلمسها كل من عمل مع الراحل هي ذهنيته المتفتحة ونزعته الإنسانية التي ترفض المناطقية والإقليمية والقبلية والطائفية، كان يرى أن تكون الصحافة وسيلة تجمع ولا تفرق.. وتكون صورة حية للوحدة الوطنية، أي يكون كتابها ومحرروها من كل أطياف الوطن وربوعه، وكل من عمل مع الأستاذ تركي لن ينسى هذه المبادئ والمثل والقيم العالية.
رحم الله الأستاذ تركي السديري، وهذه من ثمار مبادرات الاحتفاء بمسيرة الرموز الوطنية.. إنها تعطينا الفرصة لكي نقف عند تجربة حياة ومسيرة عطاء من كانوا بيننا ملء السمع والبصر، وملء القلوب ومثار المشاعر.
ويبقى أن نقول: إن تكريم الأستاذ تركي السديري هو تكريم لتاريخ الصحافة السعودية الجادة وروادها، بالذات في هذه المرحلة التي خرج فيها شكل جديد للإعلام ومعه تتعثر مسيرة الصحافة الجادة بحكم تبدل الزمان والرجال والأحوال.