د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في كتابه الذائع «نحن والتاريخ» حكى الدكتور قسطنطين زريق 1909-2000 م عن «العقلية المستقبلية» ورأى أن المستقبل ملكُ أهلِه وأهلُه هم الذين يستحقونه ما ظلَّ متكئًا على عاملي «العلم والأخلاق» بما يتطلبانه من بناء العقول والنفوس بصورة متوازنة، والمعنى ألا «ماضوية» ولا إجبار؛ فليس الغد تكرارًا للأمس، أما الآتي فمجموعة احتمالات تتطلب الإرادة والوعي والتدبير والإقدام.
** لا يقفُ عند ماضيه إلا من تعثّر في محطة الاجترار فغادره القطار إلى محطات أُخرَ وبقي حيث هو ينتظر عربةً بائسةً أو غريبًا يائسًا، وحين يستيقظ سيكتشف أن الحياة تبدلت والأحياء اختلفوا ولم تعد اللغة هي اللغة ولا الموازينُ هي الموازين، وما يتعثر به الفرد الغافي تنتكس به الجماعة الغافلة التي تعيد إنتاج ذواتها فتنحسر وتنكسر.
** ولأننا ماضويون حتى النكوص؛ يستعبدنا التأريخُ وترسمنا الطلول ونعشق بيتنا القديم وصورنا المتحولة، فإن جدلياتنا مرتهنةٌ بما فات لا بما هو آت، وحراس «التابو» ومعادوه - على حدٍ سواء- هم المتحكمون بالمشهد الإعلامي عبر سلوك حدِّيٍ ومن خلال تحدياتٍ علنية تحاكم الظواهر الثقافية والمجتمعية التي مررنا بها خلال العقود الثلاثة الأخيرة وانعتقنا أو نوشك على الانعتاق منها؛ فإما أن نكون حداثويين نبلغ درجة المتورّطين في مسالكها أو نعاديها حتى نراها رجسًا من عمل الشيطان، وفي المقابل قد يظهر من يعتمر عباءة الصحويين مبنىً ومعنى أو يشيطنُها لتكون «المسؤولة» عن كل إخفاقاتنا، ويتحمس فئامٌ للسينما وقيادة المرأة ودخول الملاعب للسيدات ويعدها فتحًا ويناوئها فئام فيرونها سبب منع القطر وضيق الصدر وسوداوية العصر.
** والمؤدى هنا: لماذا نواجه التطرف بتطرف والتغيير بمواجهة والتطوير بتشكيك؟ أوَ لمْ نرَ التأريخ يمر أمامنا في حيواتنا القصيرة وقد كنا نُحرِّم ما صار حلالًا ونصادر ما أصبح مشروعًا ونُضيِّق ما بات مُشرعًا ونصنف كما نُصنّم من نشاء كما نشاء ثم نلتفتُ عمّن توّجناه إلى من هجوناه؟ وهل سيطرت الأدلجة حتى لم نعد نرى إلا الأبيض والأسود ونسينا معابر الألوان الرمادية وتدرجاتها؟ وهل يحكم الظواهرَ الثقافية والمجتمعية مقاييسُ صارمة لا تعترفُ بالمسافات المتاحة والمباحة بين اليمين واليسار والقريب والبعيد والقطعي والظني والمجمع عليه والمختلف حوله؟ والأهم من هذا وذاك: أين المستقبل من كل هذه الالتواءات اللجاجية منها والحِجاجية؟ وهل يظن المغرقون في بكاء الأمس أو شتمه أنهم يسهمون في بناء غدٍ أو تحقيق وعد؟
** يبقى أن يدرك الجميع قوة التنوّع وصحة الاختلاف وجمال التكامل بين الحداثي والأصولي والصحوي والليبرالي والمحافظ والتحرري، وأن السبيل الأمثل للانطلاق سواعدُ ناشئة وقواعد شامخة، وأن دوائر القرار ومراكز الدراسات مطالبة بعنوانٍ يضم مشروعاتها الإستراتيجية ويرتسم في واجهته شعار: «الوطن للجميع».
**المستقبلُ لمن يعمل له.