د. محمد بن إبراهيم الملحم
في كثير من الدول الغربية يمثل التطوع حجر أساس في المدرسة؛ فالأمهات اللاتي لا يعملن يأتين المدرسة فترة الفسحة للمساعدة في مراقبة الأطفال أثناء اللعب، وبعضهن تساعد المعلمة في ترتيب غرفة الصف. وفي مصدر شبه رسمي بريطاني بشأن معلومات عن الخدمات التعليمية فإن هناك من الآباء والأمهات من يخصصون 3 ساعات أسبوعيًّا للعمل تطوعيًّا في المدرسة، سواء في الأنشطة أو في مساعدة التدريس، مثل قراءة القصص للصغار، أو حل مسائل الرياضيات، أو الإشراف على الرياضة، أو المشاركة في الرسم والتدريب المهني.. وغير ذلك. كما أن الطلاب الجامعيين الذين يطمحون إلى الحصول على وظيفة معلم مبكرًا يبحثون عن مدارس ليتطوعوا بالعمل فيها؛ ليضيف ذلك إلى نقاط الخبرة، ويجعلهم أكثر قربًا إلى القبول في دبلوم التدريس، ثم في الوظيفة. وهذه ممارسة شائعة، بل لها تنظيمات وإجراءات خاصة بها.
يسهم التطوع للتدريس في تقريب المعلم من تفكير الطالب وجوه النفسي وهو لا يزال خارج الإطار الرسمي للوظيفة؛ ما يجعل التعلم في هذا الشأن خاليًا من مؤثرات واجبات الوظيفة، أو روتينها المزعج، أو أنظمتها الجافة. كما يكتسب المعلم المتطوع الخبرة من المعلمين الرسميين، ويتفاعل مع بيئة المدرسة، ويتعايش فيها بصورة كاملة، تمكنه من الحكم الجيد وتقييم ذاته. كل ذلك يهيئه بشكل أفضل للمهنة مما لو حصل فعلاً على الوظيفة كموظف تحت التجربة، بل إنه يسمح للشاب بأن يقرر فعلاً هل مهنة التدريس تلائمه أم لا؟ فلا يزال في وضع مرن جدًّا، يسمح له بالتفكير بشكل جاد في شيء آخر. وهذا الأسلوب يعطي الفرصة أيضًا للجهات التعليمية التي تراقب هذا المتطوع (الذي هو مرشح مستقبلاً لمهنة التدريس)؛ لتقرر مدى ملاءمته لمهنة التدريس؛ فهو هنا في إطار عملي حي، ويمارس المهنة بروح تطوعية بحتة؛ ما يعني أنه يعطي أفضل ما عنده، ولمدة طويلة بما فيه الكفاية للحكم عليه بعدالة. وهذا أفضل بكثير من أسلوب المقابلة الشخصية المحدود جدًّا.
أشرتُ في مقالة سابقة إلى أن التدريس قبل أن يكون مهنة فهو فن State of Art وموهبة، يؤتى إياها البعض فتراه مدرسًا متميزًا بسجيته؛ فهو يحسن الشرح والتوضيح، وينجح في انتقاء الأمثال المقربة للفكرة، ويتمكن من التفصيل حيث ينبغي التفصيل، والإجمال حيث ينبغي الإجمال، وقادر على مخاطبة مختلف أنواع العقول، سواء باختلاف طريقة تفكيرها أو باختلاف أعمارها وقدراتها الذهنية.. ومثل هؤلاء إذا كان مجالهم المهني غير التدريس كالهندسة أو الطب أو الإدارة نجحوا في قيادة فرق العمل معهم؛ لأن المعلم المبدع الذي بداخلهم يسهّل على الآخرين فهمهم ومعرفة ما يريدون بالضبط. وكثير من هؤلاء يحبون أن يمارسوا التدريس للطلاب فعلاً، بل بعضهم يتمنى ذلك.. وعندما يتقاعد بعضهم يقوم بالتدريب أو العمل في مجالات تشبه التدريس، كالتوجيه والإرشاد في الحملات التوعوية.. ولكن ماذا عن التدريس نفسه؟! سيكون التطوع للتدريس فرصة لهؤلاء المبدعين من الآباء المتقاعدين، أو حتى أولئك الذين لديهم مهنة تتميز بمرونة، تمكنهم من العمل الجزئي في المدرسة؛ ليقدموا للطلاب إبداعاتهم التدريسية بحسب مجالاتهم التي تخصصوا فيها، أو الموضوعات التي يمكنهم تدريسها، أو حتى للصفوف التأسيسية في القراءة والكتابة.. هؤلاء المعلمون المبدعون مكسب كبير جدًّا للمدرسة لو ساهموا في العملية التعليمية، وهم يقدمون للمنظومة التعليمية القدوة والمثال في ممارسة المهنة بروح الحب والانتماء، لا بروح الوظيفة والأداء. لائحة العمل التطوعي في المجالات التربوية، سواء التدريس أو النشاط الطلابي أو العمل الإداري، أو ما شابه ذلك من الأعمال المساندة، هي مطلب مهم وقيمة مضافة للتعليم، أتمنى ألا يقلل القائمون على التعليم من قيمتها، وأن ترى النور قريبًا.