الحنين إلى الماضي شعور فريد لمن عاش في فترات تحولت فيها أساليب الحياة، واختلفت عما كانت عليه على حسب المعطيات الحضارية في كل فترة، ولكل حقبة زمنية فنونها التي تعبر عن وجدانها وتغطي احتياجاتها.
السؤال الثقافي والحضاري للجيل الجديد يربك مَن عاصر التحولات المتسارعة، ويطرح سؤالا يواجه السؤال الأول، فالأول يسأل عن كيفية حضور ذلك الإرث في واقعه دون أن يؤثر على تطوره؟ وما أهميته؟ والسؤال الذي يواجه السؤال الأول لم تثره إلا عاطفة الحنين والولاء: لماذا لا يكون الحاضر امتدادا للماضي وتطويرا وإحياءً للسابق؟.
إنسان اليوم ليس عليه أن يكون نسخة عمن سبقوه، إنما له عقل ووجدان وأسلوب حياة في مجموعها تكوّن مجتمعا يُنتج طرائق جديدة للتعبير عنها غير مرتبطة باللاحق، فمن حقه أن يُنتج فنونا وثقافة جديدة تعبر عن روح عصره، وهذا ما فعله السابقون عندما أنتجوا فنونا تعبر عن روح عصرهم.
ومن حق إنسان اليوم أيضا الذي ينازعه الحنين أن يشعر بالروح السابقة، وينقل ذلك الشعور لمن لم يعشها من أبنائه وأحفاده، وقد يصل الأمر إلى التعصب ورفض كل ما يخرج عن الماضي، فتنشأ عقدة (العادات والتقاليد)، حتى أصبح هذان اللفظان لا يذكران إلا في سياق الاعتراض والاختلاف.
الأمر الذي لا يمكن أن نرفضه هو الماضي والموروث الثقافي والاجتماعي بكافة أشكاله، بل نقبله بكل ما نشعر إزاءه من محبة وحنين وجذور أصيلة، لكن بدون سُلطة على العقل الحاضر، إنما قراءته قراءة ناقدة وممحصة وقد تكون ناقضة، وتجديد الرؤية إلى الحياة والعلم والعقل، والتحرر من إسار المقولات والأمثال، وصناعة مقولاتنا وأمثالنا وفنوننا التي تمثل الحاضر؛ فيحضر الماضي في وثائق تاريخية مدققة بقراءة واعية للتفاصيل ضمن المناهج الحديثة.
ويحضر لوحة فنية ومهرجانا موسميا مرتبطا؛ إما بالزمان مثل (مهرجان الجنادرية)، وإما مكانيا مثل (سوق عكاظ).
علينا أن نؤمن أننا سنشاهده ونحكي عن أدق تفاصيل العقل الذي أبدعه، ولن يخرج عن إطار اللوحة أو أسوار المهرجان، بل إن المهرجان نفسه يبين الحالة الانتقالية بين الأمس واليوم واقعا ماديا حضاريا، فوظيفة المهرجان ليست إحياءً، بل عرضا لواقع مضى وانقضى، صنع نفسه ضمن ظروفه، لكن ما نلمسه أن التعلق بالأمس وإن كان بعيدا هو تعلق فكري ووجداني، لعقل واجف متوجس من الحديث القادم، يرى في الماضي جمالا روحيا يأنس إليه، ويرى فيه المأمن الثقافي أمام تسارع المتغيرات، رغم أنه لم يشارك في ذلك الماضي، ولم يعش ظروفه الصعبة، لكن يصفه بالجميل كما يتصوره، ولو عاشه لأدرك أن الجمال فيه نسبي أمام ما يعيشه في حاضره الذي يتسع للروح والجسد والمادة.
إذا حضرتْ هذه المهرجانات مذكرة بالأسلاف فللمعرفة والمتعة الآنية والفنية بالروح، لا لإشاعة الأسف، ولا للنظرة الرومانسية الباكية، وكأن ما مضى حضارة اندرست ولم تخلف وراءها إنسانا.
«الأولين ما خلوا للتالين شيء» ليكن «التالين أدركوا الأول والتالي!».
** **
- د.إيمان سالم