* وقفة :
يظل الشاعر – أي شاعر – تيَّمه حب الشعر، وتفاعل مع ألحانه ومكنوناته منذ المراحل الأُول من عمره،... يظل محلقاً في رؤاه وأخيلته، يحاكي من خلالها الأفلاك السائرة، عبر الأجواء الحالمة، والبحار الهادرة، بالأمواج الجاذبة في مدها وجزرها، يتفاعل معها بالأفراح تارة، والمعاناة تارة أخرى.. فيضفي عليه التألق وسمو الهدف وعذوبة الوجدانيات جواً حالماً (أَثَراً.. وتَأثيراً)..
* * *
بداية : أهدى إليّ الشاعر الكبير د. سعد عطية الغامدي، صاحب الدواوين التي فاق عددها حتى الآن (عشرة دواوين) ، أهدى إليّ ديوانه الجديد الموسوم بـ (عبق من صباح عابر) ويقع في (250) ص من القطع المتوسط، ويحتوي على (249) قصيدة من الشعر العربي الفصيح، كان لشعر الوجدانيات النصيب الأوفر منها؟
* * *
ليس جديداً عليّ شعر الشاعر، وقيمته الإبداعية؛ ولا مكانته الشاعرية بين شعراء المملكة البارزين، فقد قرأت شعره من خلال دواوينه العديدة الصادرة قبل هذا الديوان، وقلت رأيي فيها بوضوح وتجرد، وقيّمته من وجهة نظري، بأنه يعد في طليعة شعراء المملكة (إخلاصاً ووطنية وإبداعاً) فهو يتمتع بنفس طويل وموهبة أصيلة، ورؤى حانية، ووجدانيات تنبض بالحكمة والعذوبة والسهولة في التناول (أسلوباً وفكرة).
ويأتي ديوانه الجديد المعني في هذه القراءة، ليؤكد صدق موهبته، ووضوح رؤاه، وسمو تطلعاته، وتدفق شعره كنهر لا ينضب معينه!
ومن قصيدة وجدانية بعنوان «أحرق قاربي» ص (176) يفلسف فيها عشقه للبحر، وتجاهله للمخاطر التي يكتنزها في أحشائه لمن تعود – الغوص فيه، والتمتع بما فيه من مفاجآت وأسرار لا يدرك كنهها إلا من عاصرها وتفاعل معها (سلباً وإيجاباً) .
ألفيتُ طيفك في الدُّجى يرعاني
ويشاغلُ الأطيافَ كي يلقاني
ويبثُّني مما بثثتِ مشاعراً
تصفو بها الأبدان في الأبدان
ويكادُ يهمسُ كالنَّسيم تلطُّفاً
وتكادُ تلمسُ راحتيه يدانِ
وأكادُ أسمعُ شدوهُ وحداءه
وتكادُ ترجع بالصَّدى شفتانِ
أقبلتُ في شغفٍ إليه لأنَّه
حملَ الشِّفاءَ من الجوى وشفاني
وسقيتهُ بعضَ العتاب ولم أزلْ
أسقيهِ حتى ذابَ ثمَّ سقاني
ليس أقسى على الإنسان من ساعة الوداع، وما يتخللها بين المحبين من عبارات يغشاها الشعور بالحزن والفرقة وذرف الدموع، بعد اجتماع دام طويلاً، تخلله الوفاء وصفاء الود وإخلاص النوايا وحسن التعامل.. وللشاعر في هذا المعنى قصيدة معبرة بعنوان (في أفق الوداع) ص (227) أجاد فيها وصف هذا الموقف في حياة المحب عند توديع حبيبه ؟
قبَّلت من أفقِ الوداع جبينا
ونِهلتُ من ألَقِ اللقاءِ معينا
ونشرتُ أحلامي وصُغتُ مشاعري
حلماً تحنُّ له القلوبُ حنينا
وطويتُ صحراءَ الرحيل كأنَّما
طرَّزتُ فيها الفلَّ والنَّسرينا
وزرعتُ إحساسا ًرويتُ بنبضه
مُهَجاً يجرُّعها السَّرابُ أنينا
آوي إلى قمم الغمام تحفُّ بي
صورٌ لومضِ هواكِ لو تدرينا
وأعانُق الجوزاءَ إذ ترقين في
عليائِها أو تمنحين يقينا
خاتمة: في الديوان قصائد كثيرة، لا تُمل قراءتها، كان بودي لو استرسلت فيها طويلاً، لكن مساحة المكان لا تسمح بأكثر مما كان. وحسبي أن شعر الشاعر يظل روضة غناء بجميل الشعر وأعذبه يهوى التجوال فيها كل من تيّمه حب هذا اللون من الشعر العربي الأصيل .
ونودع الشاعر المتجدد في رؤاه وأفكاره وأخيلته ، وهو يجول بنا عبر شطآن الجمال الأخاذ، يشنف آذاننا ويطرب أسماعنا بجميل الشعر وأعذبه (لحناً وموسيقى) على أمل اللقاء به في جديد قادم إن شاء الله.
هذا لسانُ الشعر قد نطقتُ به
غررُ الجمالِ وكم يطيبُ لسانُ
وتساقط التَّعبُ الذي عانيتُ من
أوجاعهِ وتساقطتُ أحزانُ
في مهرجان الحسن تختلط الرؤى
لا تسألي إنَّ الهوى «إفرانُ»
** **
- علي خضران القرني