خيرية السقاف اسم يتردد على مسمع الزمان فينداح في الأفق ألقاً يغمر فضاء الأدب والثقافة والمعرفة وسمو الأخلاق، وصفاء النفس ونقاء السريرة, وحب الخير, عشقت الحرف والقلم عشقاً ملك عليها أقطار نفسها واستحوذ على أحاسيسها ومشاعرها منذ نعوفة أظفارها، أسرجت صهوة خيلها في مضمار الإبداع والأدب فحازت قصب السبق، وحينما تدلف إلى فضاءاتها الأدبية والإبداعية يتملّكك الشوق إلى البقاء والمعايشة الواعية لكل فضاءاتها فضاء القصة القصيرة، وفضاء المقالات الأدبية والتوجيهية والاجتماعية، وفضاء البحوث والدراسات الأدبية، ومن له صلة بها من لداتها وأترابها ومن رفاق المهنة يجد فيها الإنسانة الخلوق المتواضعة والتي تحب الخير لها ولغيرها ولسان حالها يقول:
فلا هطلت عليّ ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
وهي رائدة في مجالات عديدة تسعى إلى غايتها بروح وثابة تطلب الوصول إلى الغاية مهما بعدت ومهما بذلت في سبيل ذلك من جهد وكأنها تتمثل قول الشاعر:
من رام وصل الشمس حاك خيوطها
سبباً إلى آماله وتعلقا
وفي سبيل غايتها الهادفة تدرك حجم ما قد يعترض طريقها من عقبات ولكنها تجتاز مداها غير عابئة بالعوائق متمثلة قول الشاعر:
تريدين إدراك المعالي رخيصة
ولا بد دون الشهد من إبر النحل
وقول أبي الطيب:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وبمثل هذه الهمة العالية، والعزيمة الوثابة صارت نجماً ساطعاً في سماء الأوليات في العديد من المجالات، وإذا دلفنا إلى آثارها الأدبية ومؤلفاتها نجدها تتألق إبداعاً من خلال أعمالها القصصية لا سيما القصة القصيرة كما يبدو من مجموعتها القصصية (أن تبحر نحو الأبعاد) وما كانت تنشره في مجلة الفيصل من قصص قصيرة، وما نجده في كتاباتها الصحفية من خلال ما كانت تسطّره في جريدة الرياض تحت عنوان (زاويتي) و(حروف وأفكار) وقد بدأت هذا النشاط الصحفي في وقت مبكر من مسيرتها الأدبية، وعلى الرغم من أنها محاولات في بداية الطريق ومنتصفه إلا أنها كانت تشي بما تتمتع به الكاتبة من موهبة وذائقة إبداعية ورؤية مسددة ونقاء في المشاعر والأحاسيس، وإذا كانت الدكتورة خيرية قد عرفت قاصة مبدعة وكاتبة متألقة إلا أنها أيضاً خاضت غمار البحث الأدبي بكل اقتدار، وتجلت باحثة عميقة النظر واسعة الاطلاع، مستوعبة لما يدور في ساحة الأدب والنقد من اتجاهات ونظريات أدبية ونقدية حديثة، ويتجلَّى ذلك بوضوح في كتابها (مناهج دراسة الأدب وتدريسه في الجامعات العربية)، وهو رسالة دكتوراه تقدَّمت بها إلى كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1407 - 1987، ثم صدرت مطبوعة ضمن مطبوعات جامعة الإمام في طبعة خاصة بمناسبة افتتاح المدينة الجامعية عام 1413 – 1992، وقد كنت مشرفاً على الرسالة فيما يتعلّق بالجانب الأدبي أما الجانب التربوي فقد أشرف عليه الأستاذ الدكتور محمود أحمد شوق أستاذ المناهج وطرق التدريس في الجامعة، ورسالتها تعد من أولوياتها، إذ إنها أول دراسة تلقي الضوء على مناهج دراسة الأدب العربي وتدريسه في الجامعات العربية، وقد أفصحت الباحثة عن ذلك في مقدمتها عند البحث عن الدراسات السابقة حيث قالت: (لا تعلم الباحثة أن أحداً سبق إلى التعرض لهذا الموضوع على نحو ما ورد في خطة هذا البحث وما توصلت إليه في تطورها، أو بما يماثله تفصيلاً وموازنة إذ هو موضوع بكر)، وقدم للدراسة معالي مدير جامعة الإمام الأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، وأثنى على البحث وعلى الباحثة حين قال: (والباحثة التي بذلت جهوداً كبيرة ووقتاً طويلاً في إعداد هذا البحث جديرة بالثناء، وحقيقة بالشكر، وأهل للإشادة، ومن يطلع على هذا السفر القيم يدرك سعة اطلاع الباحثة وإحاطتها بالموضوع ودراستها الجادة له) وجاءت الدراسة في خمسة أبواب الأول: منهجالقدماء في دراسة الأدب وتفسيره وتحته فصلان أحدهما حول كلمة الأدب ومفهومها، والثاني عن مناهج دراسة الأدب وتدريسه من خلال حركة التأليف في الأدب العربي القديم، والباب الثاني: المناهج الحديثة في دراسة الأدب العربي وتحته أربعة فصول تناولت فيها منهج العصور السياسية، والمنهج الإقليمي ومنهج الفنون الأدبية وأنواعها، ومنهج المدارس الأدبية والفنية، والباب الثالث: دعوات الإصلاح والتجديد في دراسة الأدب العربي وتحته فصلان أحدهما: نظرة عامة إلى محاولات التجديد والإصلاح، والآخر: طه حسين وسبل الإصلاح في دراسة الأدب العربي، والباب الرابع: المنهج الدراسي، وتحته ثلاثة فصول : تناولت مفهوم المنهج الدراسي، وأسس المنهج الدراسي، ومكونات المنهج، والباب الخامس: بناء المعيار، وفيه ثلاثة فصول تناولت المعيار في صيغته المبدئية، والدراسة الاستطلاعية، وثبات المعيار وصدقه، وجاءت الدراسة في جزأين الأول (400) صفحة، والثاني (264) صفحة، ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الدراسة تمت على ضوء المناهج السائدة في دراسة الأدب إبان إعدادها قبل ثلاثين عاماً، ولا ريب أنه قد حدثت اتجاهات ومناهج لاحقة في الأدب والنقد ولو أتيح للبحث أن يخرج في طبعة ثانية لعل الباحثة تضع ذلك في الاعتبار .
قرأت لها ما رقمه قلمها فأعجبت به أسلوباُ وفكراً، ومما قرأته إبداعها في الإفصاح عن حقيقة الصديق والصداقة، وأكد لي ذلك ما تتمتع به من خصال حميدة نحو من يحيط بها من الأحباب والأصدقاء حينما أبانت عن قيمة الصداقة في حياة الإنسان كما يبدو من قولها (الصداقة بنك لا يوصد حساباته .. ورصيد لا تنفذ روافده ... كم هي بهية القطرات التي تهمي من مزن الصديق ..) وتقول: (وإذا لم تجد من كل المحيطين بك من ينتشلك سوف تجد الصديق ذلك الساعد الذي يحملك من عثرتك، من لم تظله خميلة الصداقة فإنه في عراء التفرد قابل لانتهاك الريح) . وهذا التصور للصديق الذي قدح في ذهن الدكتور خيريه تجده قد جاء في صياغة فنية تستحضر ما جاء من أقوال وعبارات في تراثنا الأدبي عن الصديق والصداقة على نحو ما أورد أبو حبان التوحيدي في كتاب ( الصديق والصداقة) أو ما جاء من عبارات في كتاب ابن قتيبة (عيون الأخبار) وغيرهما من كتب التراث، ولعلي ألوي عنان القلم هنا . إذ الحديث عن الدكتورة خيرية وإبداعاتها حديث ذو شجون يبدأ ولا يكاد ينتهي، وحسبي في نهاية المطاف أن أورد إضاءتين لأقرب الناس إليها واحدة لوالدها حين قال عنها (نبيهة وذكية وطموحة منذ صغرها) والثانية لزوجها الدكتور يحيى محمود جنيد حين وصفها مؤكداً أنها عنصر نشط في خدمة الإنسان، لا تكل ولا تمل من الشفاعة للآخرين، ولا تتردد في رفع صوتها عندما تقف في قضية مظلوم ولا تتعب من البحث عن وسيلة لمساعدة محتاج، أو تقديم النصح والمشورة لمن يقصدها كل ذلك بتواضع جم، وبعد عن الادعاء والضجيج، وفي كلتا الإضاءتين صورة واضحة المعالم والقسمات لشخصية الدكتورة خيرية، ففي الإضاءة الأولى لوالدها بلورة لما تتمتع به من مواهب وقدرات بدأت معها منذ وقت مبكر وكبرت معها حتى احتلت مكان الصدارة أدباً وعلماً وثقافة، وفي الإضاءة الثانية لزوجها جلاء لما تتمتع به في الجانب الإنساني، وما تنشط له في خدمة الآخرين. والله ولي التوفيق
- أ.د. عبد الله بن عبد الرحيم عسيلان