نأتي إلى القسم الرابع من القصيدة وهي ابنت فجره الشمعة التي تضيء الظلام بعد أن جفف دمعه برفيقة الدرب عاد ليربت عليها حناناً ويخبرها عن نفسه بوصف دقيق جلّه حزن وأسى وكيف بلغ به الحال بعد هذا العمر المديد ومع ذلك كله عليها أن تفتخر به دوماً فهو الذي يمزج أطواراً بأطوار:
وأنتِ ! يا بنت فجرِ في تنفّسه
ما في الأنوثةِ من سحرٍ وأسرارِ
ماذا تريدين مني ؟ إنني شبحٌ
يهيم ما بين ... أغلالٍ ! وأسوارِ
هذي حديقة عمري في الغربة كما
رأيتِ.. مرعى خريف جائعٍ ضار
الطير هاجر والأغصان شاحبة
والورد أطرق ... يبكي عهد آذارِ
لا تتبعيني دعيني واقرئي كتبي
فبين أوراقها ..، تلقاك أخباري !
وإن مضيت فقولي لم يكن بطلاً
وكان ، يمزج أطواراً ... بأطوارِ
الصيغ البلاغية اللافتة تكون عطر القصيدة وأريجها الفوّاح فهنا عندما يصف ابنته بالفجر في تنفسه إنما يقصد أنها كانت بكره وفرحته الأولى فهذه كناية عن الفجر لأنه أول النهار وهي أول الأبناء! وإنني شبح أيضاً كناية عن الاختفاء وهو الموت ، وآذار شهر تغنى به كثير من الشعراء فها هو يودعه أيضاً ! ثم يعطي حق الأنوثة من الجمال ويختزل ذلك كله في السحر والأسرار اختصاراً موجعاً يحمل رقة وليناً لم يكن في الأبيات الأخرى وهذه عاطفة خاصة من أب إلى فلذة كبده ابنته!
ويا بلاداً نذرتُ العمر زهرته
لعزّها دمتِ ، إني حان إبحاري
تركتُ بين رمال البيد أغنيتي
وعند شاطئك المسحور أسماري
إن ساءلوك فقولي لم أبع قلمي
ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري
وإن مضيتُ فقولي لم يكن بطلاً
وكان طفلي ومحبوبي وقيثاري
لم ينس بلاده في وداعه فكانت عباراته المؤثرة تعكس عاطفته وحبه حتى عندما يفتخر بخدمته له فإنما يدعو له بالدوام وينفي عن نفسه في كل قسم أسباب الردى والزيف الذي يتصف به كثير من الساسة والشعراء! ونلاحظ تكرار كلمة ( البطل ) في جميع أقسام القصيدة وهو يؤكد أنها ليست بطولة محارب بسلاح وإنما هو في خانة أخرى لا تقل شرفاً وبطولة عن المحارب!
يا عالم الغيبِ ذنبي أنت تعرفه
وأنت تعلم إعلاني وأسراري
وأنت أدرى !.. بإيمان مننتَ به
عليّ ! ما خدشته كل أوزاري
أحببت لقياك حسن الظن يشفع لي
أيرتجى العفو إلا من غفار !
لو كان له غير ذلك لما كانت من روعة الوداع حظوة الرثاء ولكن استقرار النفس في مناجاة الرب هي تربية واختزال تراجيدي جميل يفوح عطره باستسلام وانقياد يكون في وقت هو أمسّ الحاجة إليه وإن كان في كل الأوقات وهذا شبيه بقول أبي العتاهية:
إلهـي لا تعذبنـي فإنـي
مقـرٌّ بالذي قـد كـان منـي
ومالي حيلـة إلا رجائـي
لعفوك إن عفوت وحسن ظني
كـم من زلة لي في البرايا
وأنـت .. عليَّ ذو فضل! ومنّ
** **
- زياد السبيت