الفرق كبير جدًا بين البحثين: الكمي والنوعي؛ فالكمي لم يعد مطلوبًا أو مهمًا، خاصة في زمكانية الانفجار المعرفي الرقمي، في حين يحظى البحث النوعي بمكانة مرموقة، خاصة في الدول المتقدمة علميًا وحضاريًا. فالبحث الذي يُكْتَب كميًا في مئتي صفحة يفضل أن يكون نوعيًا في خمسين صفحة؛ فالكم الورقي المتضخم لا يجعل البحث محكمًا عمومًا.
لا بد من إقناع الباحثين والباحثات، خاصة في مراحل الدراسات العليا، بأهمية أن تكون أبحاثهم العلمية نوعيّة لا كميّة، يكون فيها الجهد واضحًا ومُميِّزًا للذات الباحثة، بالنظر إلى أنها ذات فاعلة ومنتجة ومبتكرة، كي تنشئ بحثًا ذا قيمة نوعية مهمة. وهذا يعني بالنسبة إلى هذه الذات الباحثة ألا تأخذ أو تعتز بأسلوبية البحث الكمّي، في مستويَي «حاطب الليل» و»القص واللصق»، وما يتبع ذلك من أساليب السرقات العلمية المتعددة، والكارثية - على أية حال.
يمكن أن تكون العقلية البحثية في جامعاتنا - عمومًا- نمطية محكومة بمعايير تقليدية مُعوِّقة ومُحبِطة، تتغلب فيها ثقافة «تدوير المعلومات المرجعيَّة» من بحث إلى آخر، بدون أن يكون هناك أي وزن لحفريات الذات الباحثة الساعية إلى إصدار الآراء والأحكام الجريئة في التلقي والتحليل والتأويل... إلخ.
هذه العقلية المعيارية الكميّة «التقميشية» المهيمنة على الثقافة التعليمية في مؤسساتنا الأكاديمية تحتاج إلى هدم، ثم لا بدّ من اجتثاثها من جذورها، ثم دفنها في مقبرة البحث الكمِّي غير المجدي، ومن ثمّ علينا أن نزرع القيم البحثية النوعية، التي تجعل من الباحث أو الباحثة شخصية اعتبارية فاعلة في كتابة بحث علمي يمتاز برؤيات جديدة، وجماليات مكتشفة، ونتائج لم يُسبَق إليها - عمومًا - في خصوصيتها!!
ولعل البحث الأدبي، الذي هو عملية نقدية متكاملة، يستحق منّا أن نصفه بأنه إبداع، خاصة في مجال مقاربات شعريّة النصوص الأدبية. والإبداع هنا يعتمد على قدرة الباحث في اختراق النصوص الأدبية أو الخطابات عمومًا، وتجاوز كل من سبقه تقريبًا؛ ليشعرنا بأنه صاحب شخصيه علمية واضحة جدًا في كتابة هذا البحث الذي يستحق التقدير في أن يُمنح الدرجة العلمية التي يستحقها، ويستحق أيضًا أن ينشر، وأن يكون مرجعًا في مجاله. خاصة أن لدينا آلافًا من رسائل الماجستير والدكتوراه المخطوطة المُخزَّنة في الجامعات، بدون أية فائدة ترجى منها، وربما كانت فائدتها الوحيدة أنها منحت صاحبها الدرجة العلمية المناسبة التي يستحقها أو لا يستحقها في مستوى مقايستها مع معايير البحوث العلمية النوعية الحقيقية!!
والسؤال: هل كل بحث علمي لا بدّ أن يكون نوعيًا؟ لا! هناك أبحاث في التاريخ الأدبي، أو في تطور ظاهرة أدبية معيّنة، أو في تقصي المفاهيم... هذه الأبحاث لا تحتاج إلى أن تكون نوعية معمَّقة؛ لأن هدفها يكمن في أن تكون تجميعيّة أفقيّة، يُحسن فيها الباحث آليات الجمع والوصف والإحصاء، وأحيانًا الاستنتاج والتحليل. وعلى عكس ذلك، نجد الأبحاث التي تعتمد على دراسة النصوص الأدبية أو تحليلها في ضوء مدخل أو أكثر، مثل: اللغة، والشخصية، والزمان، والمكان، والصورة، والإيقاع، والرؤية؛ فإن هذه الأبحاث ينبغي لها أن تكون نوعيّة إلى درجة عليا، وألا يثقلها الباحثون والباحثات بالنظريات والأقوال، التي غالبًا ما يكون دورها شكليًا، وعبئًا على حجم البحث إذا كان استخدامها بأسلوب «القص واللصق».
أيها الباحث/ الباحثة، اترك لنفسك العنان في أن تتفاعل مع بحثك بكل جرأة، وحرية، وعقلية منفتحة، وعاطفة الاعتزاز بالذات، والمغامرة، والإعلاء من شأن تجاربك وثقافتك... حينئذ بإمكانك أن تكون واعيًا إلى درجة أن يكون بحثك العلمي نوعيًا إبداعيًا. لقد ولّى زمن تهميش الذات إرضاءً للمرجعيات أو المشرف أو الجامعة أو توقُّع نوعية المناقشين الذين يصدرون أحكامًا مختومة برغباتهم وأهوائهم!!
جميعنا ننجح في التنظير لأبحاثنا، ولدينا قدرة على كتابة عشرات الصفحات الممتلئة إلى مستوى الاختناق بأقوال الآخرين وآرائهم، وقد نشعر أحيانًا بقدسية ثقافية لبعض المنظرين في النظريات النقدية، ومن ثمّ تصبح أصنامهم مهيمنة علينا، وكأننا بلا شخصية أو هوية!! هذه الثقافة البحثية تمارسها «ثيران الساقية»، التي لا تخرج عن دائرة المسافة التي تُربط بها أعناقها.
هناك باحثون تفوقوا على أساتذتهم والمشرفين عليهم؛ لأنهم اختطوا لأنفسهم منذ بداية ممارستهم البحثية ضرورة قتل الأبوية (البطرياركية)، سواء أكانت هذه الأبوية من الأساتذة المشرفين مباشرة، أم من أستاذية المرجعيات والنظريات. وفي ضوء ذلك نجحوا، وأصبحوا روادًا في مجالهم، في الأقل لأنفسهم، ولتلامذتهم، بعد ذلك، في إعطائهم الحرية الكاملة في أبحاثهم النوعية أيضًا!!
قد تُترك عناوين أبحاث كثيرة نوعية، بسبب قلة المصادر والمراجع أو انعدامها في مجالها. هذا تفكير بحثي خاطئ؛ لأنه يؤمن بأسلوبية الانسياق مع القطيع على طريقة «الموت مع الجماعة رحمة»!! هنا تبدو اللغة البحثية كمية تلفيقيّة، يخضع فيها الباحث للمرجعيات التي تستلبه -عمومًا- خصوصيّة وتميزًا، وتجرده مما ينبغي أن يكون له من الوعي النوعي الذي يؤهله منتجًا ومبدعًا.
إذن، ما البحث النوعي؟ هناك تعريفات كثيرة ودراسات عديدة تُعرّف البحث النوعي أو الكيفي، وتقارنه بالبحث الآخر الكمي. وهذه يمكن العودة إليها، والاستفادة منها في ضرورة اكتساب آليات هذا البحث أو إجراءاته. وما يهمنا هنا يكمن في تحديد دور الذات الباحثة؛ لأنه الدور الأساس في بناء البحث كميًا أو نوعيًا. وهذا الدور النوعي يتحدد في جانبين؛ الأول: إثارة الأسئلة النوعية في بنية البحث، والثاني: الإجابة عنها إجابات نابعة من وعي الباحث، وقدرته على الوصف والتحليل وإنتاج المعرفة بصفتها معرفة جديدة لا مكررة؛ حينئذ نستطيع بكل أريحية أن نتعرّف دور الذات الباحثة، ومركزيتها في إنشائية اللغة البحثية النوعية أو الشعرية التحليلية المبدعة، ويكون الاعتماد لديها على المرجعيات وسيلة نوعية، لا غاية كمية!!
أتمنى أن تثير هذه المقالة حساسيّة تجاه تغيير بعض مفاهيمنا البحثية العلمية الكمية التقليدية، التي ربما لم تعد مجدية اليوم، خاصة أنّ البحث الكمي يمكن إنجازه في بضعة أيام أو شهور، باستخدام وسائل «القص واللصق» من الأوعية المعرفية الرقمية، وهذه الممارسة غير ممكنة في الأبحاث النوعية، وإن حدثت فهي سرقة مفضوحة!!
** **
- د. حسين المناصرة - أستاذ الأدب والنقد بقسم اللغة العربية - جامعة الملك سعود
للتواصل مع (باحثون) bahithoun@gmail.com