خالد بن حمد المالك
كان على العالم من قبل أن يحسب حساباً لأي موقف تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية، فالكلمة من واشنطن تخيف الآخرين، ولا تتجاسر الدول في الاعتراض عليها، فالجميع يتودد لأمريكا، ويتقرّب منها، ولا يفكر بإغضابها، ويسعى لأن يكون حليفاً لها، ومتوافقاً مع سياستها، وواشنطن هي من يختار الأصدقاء، وينتقي الحلفاء، ويقيم العلاقات مع هذه الدولة أو تلك بحسب ما تمليه المصالح المشتركة بين الجانبين.
**
كانت أمريكا بلا منافس ينافسها في بسط سيطرتها على ما تريده من مناطق دولية، حتى حين كان الاتحاد السوفيتي عملاقاً يحاول أن يكون أمريكا أخرى بأجندته الشيوعية، وباستقطابه لليسار العالمي لمواجهة أقوى قوة في العالم، ضمن التنافس بين العملاقين على النفوذ، والاستحواذ على المصالح كي لا تذهب للمنافس الآخر.
**
لم تكن المقارنة اقتصادياً وعسكرياً بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي واقعية، فقد كانت أمريكا هي القوة الأكبر والأعظم بذاتها وبحلفائها، وتأكد ذلك حين تفكك الاتحاد السوفيتي، وأخذت كثيراً من دوله استقلالها عن منظومة الاتحاد مما يشير إلى وضعه المرتبك في الداخل، ولتبقى روسيا إثر ذلك مع من بقي معها بمسماها الحقيقي ونفوذها الأقل.
**
وقد عانت روسيا كثيراً في السنوات الأولى من انتهاء الاتحاد اقتصادياً، ومرت بتجارب كادت أن تعيدها إلى دولة صغيرة، تستجدي المساعدات من الغرب، وتنتظر العون منهم، وتفتقر إلى الأدوات الحقيقية لإدارة الدولة، لكنها سرعان ما طوقت مشكلاتها، وسيطرت على الفاسدين من المسؤولين فيها، وعالجت أوضاعها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بما ساعدها للعودة ثانية دولةً قويةً ومهابة.
**
استغلت روسيا الفراغ الأمريكي في كثير من المناطق المهمة في العالم، واستفادت من غياب الدور الأمريكي في معظم القضايا الساخنة دولياً، لتستعرض قوتها وتفرض نفوذها، بما أعاد لها دورها وهيبتها وقوتها التي لا يُستهان بها الآن، فيما بقيت أمريكا تتعامل مع التغلغل الروسي في عدد من الدول بما يمكن وصفه بعدم المبالاة أو الاكتراث أو عدم تقديرها لخطوة وخطورة التمدد الروسي على مناطق المصالح الأمريكية.
**
هذه التطورات في المواقف الروسية أحرج واشنطن وحلفاءها، وبدأ النظر إلى أمريكا وكأنها عاجزة عن تحمل مسؤولياتها كدولة عظمى، أو أنها لا ترى بأساً من التخلي للروس عن مكانها الطبيعي في بعض الدول، دون تفسير لذلك.
**
بل إن التردد الأمريكي في أخذ المواقف الضرورية في الزمن والمكان والتاريخ، قد أعطى انطباعاً لدى أقرب الدول لأمريكا على أنها لم تعد أمريكا التي يعرفها الحلفاء، فقد فقدت شخصيتها وهيبتها إلى حد كبير، وأصبح لا أحد يخاف سطوتها، أو يفكر بموقف صارم قد يصدر عنها بدليل سياستها وموقفها من المفاعل النووي في كل من إيران وكوريا الشمالية.
**
وللمزيد من القول في هذا الشأن، ها هي إيران تلعب بالنار، ولا تتحرك واشنطن بأكثر من كلمات مهذبة وناعمة وهادئة تصدر من البيت الأبيض أو البانتجون، وهي ردود فعل على السلوك الإيراني لكنها بلا قيمة طالما أنه لا يصاحبها فعل وعمل، وهي بلا تأثير ما لم تعبر عن موقف صارم يوقف إيران عن تدخلها في شؤون الدول ودعمها للإرهاب.
**
وهذه روسيا وتركيا وحزب الله اللبناني المحسوب على إيران تعبث في مستقبل سوريا، وتحولها إلى أرض محروقة في أعمال عدوانية كارثية بالتعاون مع نظام الأسد، مستفيدة من صمت الولايات المتحدة الأمريكية، بما يثير الانتباه والتساؤل حول مصلحة أمريكا من سكوتها على ما يجري في الشقيقة سوريا.
**
وهل هناك أبلغ من التدخل الإيراني السافر في الشأن اليمني، ودعم طهران للانقلابيين على الشرعية - وأعني بهم الحوثيين - دون مراعاة لقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة وغيرها، فيما تلوذ أمريكا بالصمت، وكأن الأمر لا يعنيها، أو أنه لا يؤثر على الاستقرار والأمن في المنطقة.
**
أنهي هذا المقال بالتساؤل، لماذا أمريكا تبدو مع قوتها العسكرية الضاربة، وكأنها دولة صغيرة لا يعنيها أمر التطورات في اليمن، مع ما يشكله ذلك من تجاهل لقرارات الشرعية الدولة، ووقوفها موقف المتفرج من زج إيران غير المبرر بنفسها في الشأن اليمني، بما لا يخدم إلا أعداء الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى رأسهم نظام الفقيه في إيران، بما سيجعل أمريكا أمام أنظار العالم بمثل هذا الموقف وكأنها خارج سياق الاهتمام بالتطورات العالمية.