د. محمد بن عبداللطيف الملحم
ما عن «المحطة الثالثة «فسوف أتناول فيها، وباختصار، عن علاقتي وأنا مدرس قانون في كلية التجارة بوزارة المالية والاقتصاد الوطني حيث تلقيت خطابًا من عميد الكلية في عام 1390هـ عن رغبة وزارة المالية والاقتصاد الوطني أن أعمل بها مستشارًا غير متفرغ. يقرأ نص الخطاب كالتالي:
الرقم 1846/10 وتاريخ 8-9-1390هـ
سيادة الدكتور محمد الملحم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أفادت إدارة الجامعة بخطابها رقم 3957/4 وتاريخ 4-9-1390هـ بأن صاحب السمو الملكي ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء (خالد بن عبدالعزيز) قد وافق على استخدامكم في وزارة المالية والاقتصاد الوطني لدراسة بعض العقود الحكومية مع الشركات الأجنبية التي تعرض لوزارة المالية وغير ذلك من الأعمال المماثلة على أن تمنح مكافأة شهرية مقدارها ألف ريال وذلك في أوقات إضافية في الوزارة وعندما تسمح بذلك أعمال التدريس في الكلية. أرجو التكرم بالإفادة، وتقبلوا تحياتي.
عميد كلية التجارة: حسين محمد السيد
وإلى جانب دراستي لبعض العقود الحكومية مع الشركات الأجنبية رغب الرجل الهُمام معالي الشيخ محمد أبا الخيل نائب وزير المالية والاقتصاد الوطني وقتها، (وبتوصية من الرجل الصالح زميل دربي في الدراسة «صالح الحصين» في مدينة قاهرة المعز حينما كنتُ طالبًا بكلية حقوق جامعة القاهرة وكان طالب ماجستير بالقسم القانوني بمعهد الدراسات التابع لجامعة الدول العربية، والذي تعين بعد عودته من القاهرة مديرًا للإدارة القانونية بالوزارة)، أن أعمل مستشارًا غير متفرغ في وزارة المالية، وأن أرأس «اللجنة العليا للتظلمات الجمركية» (وكانت بمثابة محكمة) وذلك في وقت كان الفساد ضاربًا أطنابه في جمارك جدة أثناء رئاستي للجنة. وكانت تجربةً رائعةً مكَّنتْني من استيعاب أوضاع الجمارك ونظامها وجرائم التهريب، وكذا ما يخص وزارة الداخلية بالنسبة لأحوال سلاح الحدود في مطاردة المهربين وكانوا من الكثرة وقتها.
وبخصوص «المحطة الرابعة» فمقتضاها طلب مدير معهد الإدارة العامة في عام 1390هـ من وكالة جامعة الرياض الاستعانة بي في تدريس مادة «القانون الإداري» في برنامج الأنظمة المنشأ وقتها بالمعهد. وهو برنامجٌ كان له من خلال خريجيه فيما بعد شهرة وأثر ونتائج حميدة في الكثير من مرافق الدولة. وكان مدير المعهد وقتها الأستاذ النشط فهد الدغيثر. وجاءت موافقة الجامعة كما يلي:
الرقم 6860/4 وتاريخ 17-10-90
سعادة مدير عام معهد الإدارة العامة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
نشير إلى خطابكم رقم 3283 في 4-10-1390هـ بشأن طلبكم الموافقة على ندب سيادة الدكتور/ محمد الملحم المدرس بكلية التجارة للقيام بتدريس مادة القانون الإداري.
نشعركم بموافقتنا على ذلك، علما بأن راتبه الشهري 1400 ريال، وقد رفع عنه لمقام مجلس الوزراء لترقيته للمرتبة الثانية، وسوف نشعركم حال صدوره ولكم تحياتي.
وكيل الجامعة: الدكتور عبدالعزيز الخويطر
صورة لسعادة الدكتور/ محمد الملحم كلية التجارة
أما عن «المحطة الخامسة» ففيها طُلِبَ مني أن أكونَ مستشارًا غير متفرغ بوزارة الدفاع والطيران والمفتشية العامة وأنا «مدرسٌ» في الكلية وحتى بعد أن كنت فيها عميدًا، قدَّمت بعض الاستشارات والدراسات للوزارة قبل أن أتعرَّف على سمو الأمير سلطان وزير الدفاع. والفضل في بدء علاقتي بوزارة الدفاع للأستاذ «محمد أبا الخيل» الذي أوعز للوزارة بأن أنظر في قضية عقد كانت وزارة الدفاع قد وقعته مع «شركة إيرويرك «AIR WORKS)) البريطانية وكانت وزارة المالية طرفا فيه. وتم التوصل إلى إنهاء القضية في مدينة جدة.. وكانت هذه القضية هي بداية علاقة طال مداها بين وزارة الدفاع وبيني حتى تغيير وزارتنا في عام 1416هـ.
وهكذا وأنا «مدرس» بكلية التجارة، ومن ثم عميدُها،كانت لي علاقات مع «وزارات السيادة الثلاث»: وزارة المالية ووزارة الداخلية ووزارة الدفاع، بالإضافة إلى ديوان الموظفين العام، ومعهد الإدارة العامة.
وأود أن أنوه كحقيقة تاريخية أن علاقتي بوزارتي الداخلية والمالية قد أثرت فِكري من الناحية القانونية حيث إن «وزارة الداخلية» كانت «أم قوانين»، وهي قوانين (أنظمة) كانت تُعنى بأحوال كافة طوائف الشعب، وكذلك «وزارة المالية والاقتصاد الوطني» التي كانت هي الأخرى الأم لمعظم القوانين (الأنظمة) في المملكة، وذلك في كل ما يتعلق بالشؤون المالية والإدارية.
هذه نبذة مختصرة عن المحطات الخمس التي أشرت إليها. وهي محطات الحديث عنها بالتفصيل طويل وشيق ولكن ليس هنا محلها، وموطنها سيكون في «مذكراتي»، وهي محطات مُكِّنْتُ فيها أن يكون لي دور في «عملية التشريع القانوني» في المملكة، وهي عملية مهمة أفصحت عنها في مقدمة حديثي لكم من أنها وفَّرت لي قناعة تامة أحكمتها تجارب مرت عليَّ على مدى نصف قرن أو أكثر وهي أن أي مشروع يهدف إلى تطوير مجتمعنا ولا سيما بالأخص إذا كان يتعلق «بالشأن القانوني» يلزم البدء به بهدوء تام، ودون الجري وراء الشهرة، والعمل ما أمكن أن يكون على نار هادئة. ولقد تحقق النجاح لي بتوفيق من الله.
الشق الأول
والآن سوف أبدأ، وباختصار، في تناول الشق الأول من حديثي، وهو كما سبق القول، يتعلق بما كان يتم، في ظل عدم وجود «مجلس للشورى»، من إجراءات في شأن الوضع التشريعي في المملكة وذلك منذ عام 1373هـ وحتى عام 1412هـ.
أنشأ الملك عبدالعزيز في الحجاز «مجلسًا للشورى» كان يُسمى «مجلس شُورِي» في عام 1346هـ وذلك لظروف اقتضت إنشاءه في مملكة الحجاز، ومن ثم صدر نظام جديد للمجلس في عام 1347هـ وهو مجلس قليل العدد، وذو صلاحيات محدودة. وظل هذا المجلس يمارس صلاحياته وإن كانت مقتصرة على مملكة الحجاز، حيث ضعف عمله، وتوارى عن الأنظار رغم أن نظامه ظل ساري المفعول.
وفي عام 1373هـ أُنْشِئَ مجلس الوزراء محتضنًا اختصاصات «مجلس الشورى» الذي توارى عن الأنظار، وعُدِّلَ «نظام مجلس الوزراء» أكثر من مرة، وكان آخرها في عام 1377هـ حيث حل محله نظام جديد للمجلس بموجب المرسوم الملكي رقم 38 وتاريخ 22 شوال 1377هـ وهو النَّظام الذي بسط نفوذه على جميع أنحاء المملكة. ويعد هذا النظام، من وجهة نظري «دستوراًَ» من حيث المضمون حسب ما هو متعارف عليه في الأعراف الدستورية المعاصرة، وبمعنى أنه هو «دستور المملكة» من حيث جمعه بين سلطات الدولة الثلاث.
وفي عهد جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز تَمَّ تشكيل وزارة جديدة في عام 1395هـ بموجب أمر ملكي رقم أ/23 وتاريح 8-10-1395هـ دَخَلَ فيها وزراء جدد معظمهم من جامعة الرياض، وجامعة الملك عبدالعزيز في جدة، وكنتُ عضوًا في هذه الوزارة بمسمى «وزير دولة وعضو مجلس وزراء»، وكان يُطلق على هذه الوزارة في الصحف الغربية «بوزارة الدكاترة». وصاحب تشكيلَ الوزارة «نموٌ اقتصادي» كان فاتحة خير لما يُسَمَّى وقتها ببدايات «الطفرة الأولى». وظل نظام مجلس الوزراء لعام 1377هـ هو المحور الأساس لكل مكونات الدولة السعودية، وساري المفعول في ظل الطفرة المشار إليها. وكان من سلطات هذا المجلس «السلطة التنظيمية» التي لم يُمارسها المجلس وحده وباستقلال تام. بل كانت ممارسة «السلطة التنظيمية» إلى جانب سلطة مجلس الوزراء «الأم» موزعةً على وزارات من جهة، وعلى مرافق من جهة أخرى، وباعتبارها كلها وزارات ومرافق ـ بمثابة مؤسسات أو هيئات استشارية في المجال التشريعي. ومن الوزارات وزارة المالية والاقتصاد الوطني، ووزارة الداخلية، ووزارة التجارة، ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ووزارة العدل، ووزارة التعليم العالي، تُحَالٌ كل أعمالها في مجال التشريع اقتراحًا ودراسة إلى «السلطة التنظيمية» الأم بمجلس الوزراء، وذلك لكي تأخذ مجراها بعد الموافقة عليها من المجلس إلى النفاذ بموجب مراسيم ملكية تصدر بها. كان هذا الوضع هو مجمل الحال في نطاق «السلطة التنظيمية» المفترض فيها من «الناحية القانونية» أن يكون «مجلس الوزراء» هو المختص أصلاً بها في كل ما يتعلق بالأنظمة» دون غيره. ومن المرافق المناط بها اقتراح ودراسة الأنظمة مرافق كنت عضوًا فيها، ومرافق لم أكن عضوًا فيها: والمرافق التي كنت عضوًا فيها هي:
(1) اللجنة العليا للإصلاح الإداري.
(2) مجلس الخدمة المدنية.
(3) المؤسسة العامة للخطوط الجوية العربية السعودية.
(4) اللجنة العامة بمجلس الوزراء.
(5) لجنة السيادة الخاصة بالمشتريات الحكومية.
أما المرافق التي لم أكن عضوًا فيها فهي كما يلي:
(6) معهد الإدارة العامة.
(7) الإدارة المركزية للتنظيم والإدارة.
(8) الديوان العام للخدمة المدنية.
(9) شعبة الخبراء.
(10) مجلس الخدمة العسكرية.
وكان اختصاص هذه المرافق جميعها من «الناحية التنظيمية» مشاراً إليه في عبارات متفاوتة الصياغة كما هو الشأن في الوزارات: ومن هذا العبارات ذات الصيغ المتفاوتة على سبيل المثال:
بالنسبة لشعبة الخبراء: مراجعة مشروعات الأنظمة واللوائح المقدمة من الأجهزة الحكومية، وإعادة مراجعة الأنظمة السارية واقتراح تعديلها.
ـ وبالنسبة للجنة العليا للإصلاح الإداري: اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق إصلاح الجهاز الإداري، ممارسة اختصاص مجلس الوزراء فيما يتعلق بإحداث وترتيب الأجهزة والمصالح العامة، إنشاء أحكام إدارية جديدة، أو تعديل أو إلغاء قرارات سابقة داخلة في اختصاصها.
وبالنسبة للإدارة المركزية للتنظيم والإدارة: إبداء الرأي في مشروعات الأنظمة المتعلقة بالنواحي التنظيمية والإدارية، ومراجعة جميع الأنظمة القائمة بغرض العمل على تطويرها.
ـ وبالنسبة لمجلس الخدمة المدنية: اقتراح الأنظمة المتعلقة بشؤون الخدمة المدنية لإصدارها بالطرق النظامية.
وبالنسبة للمؤسسة العامة للخطوط الجوية العربية السعودية: مجلس الإدارة هو السلطة العليا المهيمنة على شؤونها وتصريف أمورها ووضع السياسات العامة في الوزارات والمصالح الحكومية دون التقيد بالنظم الإدارية والمالية المتبعة في الوزارات والمصالح الحكومية، ولها في سبيل ذلك دون تحديد اختصاصها (1) إصدار اللوائح والقرارات المالية والإدارية والفنية والداخلية بما في ذلك ترتيب الوظائف وتحديدها، (2) اقتراح اللوائح المتعلقة بتعيين موظفي الهيئة ومستخدميها وعمالها وترقيتهم وتحديد مرتباتهم وأجورهم ومكافآتهم، وما يمنحون من ميزات عينية ونقدية وغير ذلك دون التقيد بالنظم واللوائح الخاصة بموظفي الحكومة، وتصدر اللوائح الخاصة بذلك من مجلس الوزراء.
وبالنسبة للجنة العامة بمجلس الوزراء، مراجعة مشروعات الأنظمة واللوائح المقدمة من الأجهزة الحكومية، وإعادة مراجعة الأنظمة السارية المفعول واقتراح تعديلها، ومناقشة التقارير السنوية التي تقدمها الوزارات والأجهزة الحكومية الأخرى، واقتراح ما تراه بشأنها، وحرية إجازة ما يرد فيها من مخالفات إن أمكن أو الرفع عنها لمجلس الوزراء.
وبالنسبة للجنة السيادة الخاصة بالمشتريات الحكومية ذات الاختصاص الاستثنائي فهي لجنة مُنْحَتْ اختصاصات مجلس الوزراء في الشؤون المالية، وذلك في كل ما يتعلق بعقود المشتريات الحكومية، وكانت تتكون من سمو ولي العهد رئيسًا وعضوية كل من: وزير المالية محمد أبا الخيل، ومحمد إبراهيم مسعود وزير الدولة ومنِّي. وكان لهذه اللجنة دور كبير في الموافقة على كل القرارات المتعلقة بإنشاء وتطوير البنية التحية الشاملة لكافة مرافق الدولة في ظل الطفرة الأولى.
الشق الثاني
والآن سوف أبدأ، وباختصار، في تناول الشق الثاني من حديثي، وهو كما سبق القول، يتعلق بما تم في إعداد مشروع نظام الحكم الأساسي، ونظام الشورى، ونظام المقاطعات ابتداء من عام 1400هـ حتى عام 1412هـ، وهو العام الذي وُضِعَتْ فيه المشاريع الثلاثة موضع التنفيذ بصدور مراسيم ملكية بإقرارها.
وكانت البداية صدور البرقية التالية من الديوان الملكي ذات الرقم 10957 تاريخ 2-5-1400هـ من نائب رئيس مجلس الوزراء لسمو وزير الداخلية، والتي نصها كالتالي.
عاجل جدا
صاحب السمو الملكي وزير الداخلية
بعد التحية: بناء على التوجيه الملكي، واهتمامًا من حكومة جلالته في استكمال الإجراءات النهائية المتعلقة بنظام الحكم الأساسي، ونظام مجلس الشورى، ونظام المقاطعات تمهيدًا لإعلانها وتطبيقها، وبناء بما وعدتْ به حكومة جلالته في هذا الشأن، ورغبةً في تطوير أجهزة الحكم، وجعلها مسايرة للنهضة الشاملة التي تعم شتى مرافق المملكة العربية السعودية، فقد ارتأينا تشكيل لجنة برئاستكم لاستكمال إجراءات الأنظمة المذكورة، تجتمع في أقرب وقت ممكن بمقر الديوان الملكي بالمعذر لهذا الغرض، وتحرص على إنجاز الدراسة في أقصر مدى مستطاع. وإليكم فيما يلي بقية أعضاء اللجنة المشار إليها:
1 ـ معالي الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ وزير العدل.
2 ـ معالي الشيخ إبراهيم العنقري وزير العمل والشؤون الاجتماعية.
3 ـ معالي الشيخ عبدالوهاب عبدالواسع وزير الحج والأوقاف.
4 ـ معالي الشيخ محمد إبراهيم مسعود وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء.
5 ـ معالي ا لدكتور محمد الملحم وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء.
6 ـ معالي الشيخ محمد بن جبير رئيس ديوان المظالم.
7 ـ فضيلة الشيخ صالح اللحيدان عضو هيئة كبار العلماء وعضو المجلس الأعلى للقضاء.
8 ـ معالي الشيخ صالح الحصين وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء سابقًا.
وقد زودنا كلا منهم بصورة من خطابنا هذا لاعتماد مقتضاه/ والله يحفظكم.
نائب رئيس مجلس الوزراء فهد بن عبدالعزيز
وللحقيقة والتاريخ لقد انصرفَ «حدسُ وبعدُ نظر» كل من جلالة الملك خالد وولي عهده سمو الأمير فهد في محلهما حينما قرَّرا بأن يتولى وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز مهمة حساسة إذ كان سموه جديراً بتحمل تلك المهمة لأن له من خلال ممارساته الأمنية ذات الطابع القانوني في وزارة الداخلية ما يثبتُ أنه قادر على تحمل مهمة رئاسة اللجنة العليا المناط بها وضع نظام الحكم الأساسي، ونظام الشورى، ونظام المقاطعات.
لقد اجتمعت اللجنة برئاسة سمو الأمير «نايف»، ونظرت فيما قُدِّمَ لها من أوراق، وكانت تتلخص في مشروعَين لنظام الحكم في مواد مختصرة.
الأول من إعداد صاحب السمو الأمير «مساعد بن عبدالرحمن» وزير المالية والاقتصاد الوطني، والثاني من إعداد معالي الدكتور «معروف الدواليبي» المستشار في الديوان الملكي.
ولم تجد اللجنة في المشروعَين ما يحقق المطلوب وفقًا للتوجيه الملكي الذي بموجبه تقرر تشكيل «اللجنة العليا».
وأثناء النظر في المشروعَين فَاجَأ اللجنة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء بزيارة كريمة. تحدث سموه باستفاضة لأعضاء اللجنة عن تصوراته في شأن نظام الحكم، ونظام الشورى، ونظام المقاطعات. ولأن اللجنة ليس لديها غير المشروعَين المنوه عنهما سلفًا، وبالنظر لقصور المشروعَين حيث إنهما لا يعبران عما اقتضاه التوجيه الكريم فقد تقدَّمتُ باقتراح لسموه مؤداه بأنني على استعداد لتقديم مشروعين متكاملين لنظامي الحكم الأساسي ومجلس الشورى. رحب سموه باقتراحي مباركا له، ومن ثم غادر اللجنة.
وبعده مغادرة سمو الأمير فهد واصلت اللجنة اجتماعها، وفي الحال وقتها طلبتُ من سمو الأمير رئيس اللجنة العليا أن أُمْنَحَ مهلة كافية من الوقت لتقديم المشروعَين فوافق سموه. ومن ثم انفض الاجتماع.
وأكاشفكم أيها الإخوة أعضاء مجلس الشورى عمَّا دار في مخيلتي لأول وهلة وهو أن تطوعي للقيام بمهمة إعداد المشروعين كان بمثابة «ورطة» لي. وبالفعل كانت.
لم يرد بالتوجيه الكريم بتشكيل اللجنة أي مسارٍ محددٍ لها لتسير عليه غير ما ورد بافتتاحية تشكيلها.
المهمة في حقيقة الأمر كانت شاقة...
والسُّبُلُ بالنسبة لي من الناحية الدستورية في إعداد المشروعين كانت مُتَاحَة للغاية لو تركتُ لنفسي حرية التصرف... أو لو تُرِكَ لي حرية التصرف رسميًا من ولاة الأمر. لم يتم ذلك.
كنت أسأل نفسي كيف أتصرف!! وفكرت أكثر من مرة باحثًا لوحدي عن الطريق الأسلم والأنسب لِأسلكه.
لم يتصل بي كائنًا من كان من ولاة الأمر مُسْتَفْسِرًا عما أنوي عمله ما عدا اتصال من سمو الأمير رئيس اللجنة سائلاً متى انتهي؟
كانت حيرة!!!
ومع ذلك كنت أزاول أعمالي المكلف بها كوزير مع حرصي على حضور جلسات مجلس الوزراء لعام 1377هـ وهو المجلس المناط به «نظام» لا يزال ساري المفعول. وهو نظام كان بمثابة «دستور» للبلاد.
وبعد أسابيع وجدتُ ألا مفر من التمسك بنظام مجلس الوزراء لِأَلُفَّ.. وأدور حوله.. بدأت أدرسه وأتأمله.. لاسيما وأنا أشارك في اقتراح أنظمة في المرافق التي كنت بها عضوًا، «أنظمة» بعد إتمام دراستها كان مآلها إلى مجلس الوزراء بموجب نص المادة 18 من نظامه التي تنص على ما يلي:
«يرسم مجلس الوزراء السياسة الداخلية والخارجية والمالية والاقتصادية والتعليمية والدفاعية وجميع الشؤون العامة للدولة ويشرف على تنفيذها ويملك السلطة التنظيمية والسلطة التنفيذية والسلطة الإدارية وهو المرجع للشؤون المالية ولجميع الشؤون المرتبطة في سائر وزارات الدولة والمصالح الأخرى وهو الذي يقرر ما يلزم اتخاذه من إجراءات ولا تعد المعاهدات والاتفاقيات الدولية نافذة إلا بموافقته وقرارات مجلس الوزراء نهائية إلا ما يحتاج منها لاستصدار أمر أو مرسوم ملكي طبقًا لأحكام هذا النظام».
كانت المادة (18) من نظام مجلس الوزراء بعد دراستها بعمق هي محور كل تصوراتي عن مواضيع حساسة لا بد أن يشتمل عليها مشروعي نظامي الحكم الأساسي والشورى ما دام لم يصل لعلمي من أية جهة كانت أن هناك نية لدى القيادة العليا للمساس بنظام مجلس الوزراء تعديلا أو إلغاء بعد إنشاء اللجنة العليا، وأثناء مداولاتها، وحتى بعد أن أنجزت مهمتها.
وبالفعل كان تمسكي بالمادة (18) من نظام المجلس هو المحور الأساس، وأنا أعد مشروعي نظامي الحكم الأساسي والشورى.
كانت المادة (18) تنص صراحة على أن المجلس يملك السلطتين: «السلطة التنظيمية» و»السلطة التنفيذية». إذن كان مجرد النظر دستوريا، من وجهة نظري، في نظرية «الفصل بين السلطتين» مجرد تضييع وقت لو شرعتُ في مباشرة تأطيرها في مشروعي نظامي الحكم والشورى لا سيما أن نظرية «الفصل بين السلطات» مِفْصَلٌ مهم في أي شأن دستوري في الفقهين: «اللاتيني» و»الأنجلو/ سكسوني» وأنا على علم تام بهذين الفقهين، ولكنه شأن مختلفٌ في الفقه السياسي الإسلامي الذي لا يعترف بنظرية «الفصل بين السلطات» كما هي مؤطرة في الفقهين المشار إليهما.والمملكة العربية السعودية منذ أن تأسست ودستورها القرآن الكريم والسنة النبوية: عقيدة وشريعة.
ووضعت مشروعي النظامين خلال مدة ثلاثة أشهر تقريبًا، وقبل تقديمهما لسمو رئيس اللجنة العليا رغب مني صاحب السمو الملكي الأمير «سلطان بن عبدالعزيز» وزير الدفاع والطيران والمفتش العام ونائب رئيس اللجنة العليا للإصلاح الإداري بصفة خاصة، واعتباري عضواً «باللجنة العليا للإصلاح الإداري»، أن أُطْلِعَ سموه على مشروعَي النظامين. أطلعتُ سموه على المشروعين، وتأملهما، واستحسنهما بعد أن أجرى سموه تعديلات طفيفة على بعض موادهما. ومن ثم سلمتُ لسمو رئيس اللجنة العليا مشروعي النظامين، وأمر سموه أمين سر اللجنة الأستاذ «إبراهيم السحيباني» الموظف بالديوان الملكي بتوزيعهما على أعضاء اللجنة. واستغرق النظر في مشروعَي النظامين اثني عشر عاماً أي منذ عام 1400هـ الذي تم فيه تشكيل اللجنة العليا وحتى صدور الأوامر الملكية بهما في عام 1412هـ بما في ذلك نظام المقاطعات الذي تم فيه تسمية المقاطعات «مناطق».
ونظرًا لأنني قد أعددت مشروعَي النظامين، ولأنه لم يبق على قيد الحياة من أعضاء اللجنة العليا إلاَّ اثنان هما معالي فضيلة الشيخ «صالح بن محمد اللحيدان» ومحدثكم، أرى، كحقيقة تاريخية، أن أقرر ما يلي، وفي تجرد تام، وبقدر ما تسعفني به الذاكرة، عمَّا دار في اللجنة العليا من مناقشات، وعن إسهامات البعض من أعضائها بما فيهم رئيس اللجنة..
(1) كان رئيس اللجنة سمو الأمير نايف يُحاور ولكن في أناة وأدب جم، وكان يستمع للرأي الآخر، وحتى إن لم يقبله فهو يحترمه، وكان الأمير يتدخل عند اللزوم. وكان له أطروحات في منهجية نظام الحكم ودستوريته كان يعرضها خلال الجلسات.
(2) كان رئيس اللجنة ما بين فترة وأخرى أثناء جلسات اللجنة يُثْريها بآرائه في منهجية نظام الحكم الأساسي بالذات، كما كان واسطة الاتصال بين «القيادة العليا» وبين اللجنة حينما تتعرَّض اللجنة أثناء مناقشاتها لنقاط حساسة في مشروعي النظامين فيُزود اللجنة بمرئياته، ومرئيات «القيادة العليا».
(3) أعطى رئيس اللجنة الحرية المطلقة لأعضاء اللجنة ليناقشوا، ويجادلوا، ويدْلوا بما يعُنُّ لهم من أفكار عند مناقشة مواد وبنود مشروعَي النظامين. وكان يلتزم سموه الصمت إذا حمى وطيس النقاش، كما كان يتدخل عند اللزوم إذا اقتضى الأمر.
(4) كان أعضاء اللجنة يتفاوتون فيما يتعلق بالمناقشات، كان البعض منهم صامتًا أحياناً، والبعض الآخر يُناقش، ويَقترح، ويُعارض في حرية وشفافية وصراحة تامة. هذا الحال، في حقيقة الأمر، جعل أعضاء اللجنة يعتبرون أنفسهم كما لو كانوا إخوة في أسرة واحدة.
(5) كانت اجتماعات اللجنة مبرمجة مرة كل أسبوع مساء لعدة ساعات في مقر الديوان الملكي بالمعذر. وكانت لا تجتمع حينما تواجه المملكة صعاب وطوارئ ذات طبيعة سياسية.
(6) وكان في اللجنة فُرْسَان يناقشون ولكن كان على رأسهم معالي فضيلة الشيخ «صالح بن محمد اللحيدان» عضو هيئة كبار العلماء وعضو المجلس الأعلى للقضاء. كان الشيخ «اللحيدان» محاورًا لبقًا، ويعرف من أين تؤكل الكتف كما يقال. وكان ذا اطلاع واسع في علوم الشريعة الإسلامية، وحريصًا للغاية على أن ينسجم نظام الحكم الأساسي بالذات مع قواعد الشريعة الإسلامية. وكان فضيلته يقرع الحجة بالحجة بأدلة مقنعة في مناقشة مصطلحات قانونية وسياسية وَرَدَتْ في شتى مواد مشروع نظام الحكم الأساسي بالذات. ولقد استفدتُ من تداخلاته كثيرًا. وكان من المصطلحات التي كانت محل جدل ونقاش مستفيضين: السيادة، الحاكمية، مفهوم ولي الأمر أو أولي الأمر في الإسلام، الدستور، التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، موقع القرآن والسنة في إطار نظام الحكم، السلطة التنظيمية، الفصل بين السلطات النسبي والمطلق، الشرعية الدستورية، القومية العربية، الإقليم كركن من أركان الدولة، المشرع، العصمة، الشعب، استقلال القضاء وانفراد ولي الأمر بتعيينهم وإقالتهم، العلاقة بين نظامي الحكم الأساسي ونظام الشورى وغيرها من المصطلحات. وفي جلسة عاصفة ذات مساء اشتد النقاش بيني وبين فضيلته، وحمى وطيسه لدرجة أنني خُلْتُ، بل وتوقعتُ، أنني سوف اسْتَبْعْدُ من اللجنة لوحدي أو كلانا: فضيلة الشيخ وأنا. وبعد يومين كنتُ في مكتب جلالة الملك خالد رحمه الله بالمعذر صباحًا، وكان بالمكتب وتداعيات استخدامهما في شتى مرافق سلطات الدولة الثلاث: «السلطة التنظيمية» و»السلطة التنفيذية» و»السلطة القضائية» التي مرجعها «الملك» بموجب نص المادة 44 من نظام الحكم الأساسي.