د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
جمعهما عملٌ في شركةٍ أهليةٍ فكانا الرئيسَ ونائبَه، وبينهما من المسافات ما يمتدُّ بحجم التباعد بين الأبيض والأسود والهدوء والصخب والعجلة والبطء، وتوقع أكثر الناس تفاؤلًا ألا يحصل وئام بينهما وأن يختل العمل في شراكتهما وأن يخلو مقعد أحدهما لتنافر الطبائع وتضادّ التوجهات.
اختصما في الأسبوع الأول، وتوجسا من بعضهما الشهر الأول، وتجادلا في العام الأول ثم تصافيا كما لا يصفو أبٌ مع ابنه وأخٌ مع أخيه، وتفاهما على منهج العمل دون أن يتعاقدا على تعليماتٍ مكتوبة، وصار كلٌ منهما يقرأ ذهن الآخر ويتواءم مع أسلوبه فيرميان عن قوسٍ واحدةٍ وتتفق قراراتهما ولو لم يعلم أحدهما ما ارتآه الآخَر.
امتدت علاقتهما خارج الكرسي بالرغم من الاختلاف الكبير في نمطي سلوكيهما، وصارا قريبين في الوظيفة وخارجها، وفي الوطن وعندما يسافران، وسار العمل بانسيابيةٍ نادرة فرضي العاملون وأثنى المستفيدون وربحت الشركة، وجاء السؤال الأهم من ذوي الصلة بهما: مَن أثَّر على من؟.
للإجابة ثلاثة احتمالات؛ فربما غلب الهدوءُ الضجيجَ والتعقلُ الاندفاع، وربما تدجن الثاني فتوارت سماتُه، أو لعلهما امتزجا فأخذ كلاهما من صفات كليهما فخفَّ الصخب قليلًا وعلا الصمتُ صوتًا وصار المنتج منهما شخصًا جديدًا جمع الحكمة الواعية مع القرار الحاسم؛ فاختلطت الألوان الحدِّية وبدت تدرجات الألوان المحايدة، وفيها معابرُ ومنائر، ووسطيةٌ ومنطق، وقديمًا حكى توفيق الحكيم عن التعادلية بما يضمن التصالح وواجهه العقاد بمن يسير في منتصف الشارع فتدهسه سيارة، وبينهما أفقٌ لمن يتوازن دون أن يفقد هُويته ولا تدوسَه عجلةٌ أو حتى قدم.
افترقا في النهاية كما سنة العليم الحكيم، ولم تُحسم الإجابةُ حول استفهام التأثر والتأثير؛ فقد احتفظ كل منهما بخصائصه النفسية والذهنية كما وُلدا، واندمجا في العمل عبر الاختلاف أكثر من الائتلاف، والتباعد فوق التقارب، والإصغاء لمصلحة العمل وليس لرغبات الذات.
تستحق حكايتُهما أن تناقش عبر منهجية «الحالات التدريبية» التي يُعتمد عليها كثيرًا في التدريس بمراكز التدريب، والظن أنها ما تزال من أفضل أساليبه لجمعها الصورة العملية مع المرتكزات العلمية فلا يتوقف المدرب والمتدرب عند التنظير كما لا يغفلان عن التأطير.
تداعت هذه «الحالة» فاستدعت السؤالَ نفسه لا في الوظيفة والمهنة بل في العالم الرقمي الافتراضي؛ فمن أثّر على من؟ النخب أم العامة؟ الكبار أم الصغار؟ الممتلئون أم الفارغون؟ المبدئيون أم البراغماتيون؟ اللاهثون خلف الشهرة أم السائرون خلف الحقيقة؟ الغوغائيون أم العقلاء؟ المنعتقون من الإسار أم المستسلمون للحصار؟.
المتوقع أننا لا نمتلك إجابةً قاطعةً؛ فربما تداخلت التأثيرات وفق قوة المؤثرات، لكن الأقرب للرائي أن الكفة تعلو بالكثرة لا الندرة وبمن يُزجون ذممهم وليس بمن يخشون غدهم.
الكمال حزمٌ وحكمةٌ وضميرٌ وأناة.