د. عيد بن مسعود الجهني
سوريا تعيش كارثة كبرى لم يسبق لها مثيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سوريا المجد والتاريخ والحضارة الضاربة بجذورها في أعماق الزمن، موطن الخيرات وقاهرة الغزاة، جرى دم أبنائها على أرضها، دفاعاً عن ترابه، جريان أنهار بردى ودجلة والفرات، تصدت للطغاة الغازين زمن الاستعمار.
دمشق عاصمة الأدب والفنون، وكانت عاصمة الدولة الأموية التي شع نور العلم والفكر من على أرضها إلى كل بقاع الأرض شرقاً وغرباً.. سالت دماء السوريين في شوارعها وشوارع أخواتها مدن الشام وقراه على يد الطامعين في موقعها الإستراتيجي الفريد والنفط والغاز المختبئ تحت أرضها، حتى بلغ عدد الأرامل فيها أكثر من (500) ألف، فكان قدر هذا البلد أن تتحول ثروته وإستراتيجيته من (نعمة) إلى (نقمة)، لقد دفع الطمع والحقد الأعمى إمبراطورية الديمقراطية الكاذبة ومعها الفرس الحاقدين إلى شن حرب ضروس على أهل هذا البلد المنكوب من أجل بقاء طاغية على رأس الحكم.
الدماء التي سالت أنهاراً في الشوارع والجثث المتناثرة على الأرصفة والرؤوس المجتثة عن الأجساد وأجساد الأطفال والنساء والشيوخ الذين حرقتهم نيران (القوة) الدنيئة الغاشمة والسجون المكتظة بالمعتقلين الذين عُذّبوا وأهدرت كرامتهم على أيدي الطغاة، تأييدا سرا وعلنا لطاغية سوريا.
اليوم ذهب الأمن والاستقرار في هذه الأرض الطيبة أدراج الرياح وأصبحا من الأماني المستحيلة، وحلّ محلهما التشتت والضياع والفتنة والطائفية التي تقودها طهران إلى حرب أهلية، ويصح القول: «كان يا ما كان في قديم الزمان هناك دولة في بلاد الشام»!
سوريا أصبحت ممزقة محروقة تحولت إلى بلاد مدمرة، دمرت على يد الغزاة والنظام الفاسد وتغلغلت طهران في خلايا الدولة، وقُسّمت البلاد، وعلى رغم إعلان طهران أنها مع الأشقاء في هذه البلاد ومعها حزب الشيطان، ستبقى محتلاً إيرانياً، ومحطة لإدارة الصراعات، والضحية أهل هذه البلاد، وهذه هي نتائج الاستنجاد بالأجنبي لقهر الوطن والكيد له.
العارف بالإستراتيجية العسكرية والأمن الوطني يدرك أن المجتمع الدولي تآمر على قضية السوريين في ظل منظمة الأمم المتحدة والقانون الدولي وقانون حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف الأربع وكل المواثيق الدولية التي أصبحت اليوم في خبر كان.
الجسد السوري مزقه المحتلون شر تمزيق، الروس أسسوا مواقعهم هناك بقواعد عسكرية عديدة، ودفعوا بأسلحتهم ورجلهم إلى ساحة الحرب المفتوحة دعماً للنظام الدكتاتوري الذي أصبح دمية في يد الغزاة وملالي طهران كانوا أول الغزاة ومعهم حزب الشيطان احتلوا بلاد الشام بالسلاح والرجال الإيرانيين والمرتزقة الذين أتوا بهم من باكستان وأفغانستان والعراق دعماً لنظام شمولي عفا عليه الزمن ورث والده الهالك أفنى في الثمانينيات أكثر من أربعين ألف من أهل السنة في حماة وباع قبلها يوم كان وزيراً للدفاع الجولان السورية للدولة العبرية.
أما الأمريكان فلم يتأخرون عن الركب فقواعدهم العسكرية شيدت على الأرض السورية حماية لمصالح أمريكا ودعماً على حد قول سادة البيت الأبيض للمعارضة السورية فتعددت قواعدهم، ومثلهم الأتراك في الادعاء لحماية المعارضة، وحرب تركيا في عفرين، كما يقول السيد أردوغان حماية للمعارضة ضد النظام الفاسد، التي دخلها جيش النظام الفاسد وحزب الله قبل الأتراك.
لكن إذا افترضنا جدلا أن كلاً من تركيا وأمريكا يؤمنان بحق الشعب السوري بتقرير مصيره، وأنهما مع هذا الشعب ممثلاً في المعارضة فكيف بهذه المعارضة يقصفها الروس والإيرانيون وحزب الشيطان في كل مكان قتلاً وتشريداً وتدميراً من الزبداني وبلودان ومضايا وحمص وحلب ودير الزور وفي كل مكان ويشردون (غصباً) إلى إدلب بناء على اتفاقات تفاهم مع كل من تركيا وأمريكا وتتعرض اليوم لتصفية نهائية على يد النظام وأعوانه جهاراً نهاراً أمام أعين أحبائنا من الأتراك وأصدقائنا من الأمريكان.
ثم ماذا يحدث في الغوطة لبشر تضربهم الطائرات الروسية والنظام بالبراميل المتفجرة وأسلحة دمار شامل محرمة دوليا ويطوقهم من كل جانب العساكر الإيرانيون وأذنابهم من حزب الله وغيرهم ليشهد العالم على كارثة إنسانية غير مسبوقة في تاريخ الحروب الحديثة وفي ظل إعلام ينقل مأساة كارثية حزينة إلى الضمير العالمي (الميت).
دعونا نقر بحقيقة هامة أن ما يحدث على أرض سوريا التي انتقل من على أرضها الإسلام شرقا وغربا في عهد الدولة الأموية عندما كانت دمشق عاصمة كبرى، ما هو إلا تقاسم للنفوذ لدول كبرى أرادت أن تصفي حساباتها وتجرب أسلحتها على أرض السوريين، وقبلوا أن تدخل إلى جوارهم إيران وأذرعتها من حزب الله، وتركيا لتغطية الغرض الأساسي لتقاسم النفوذ.
لا شك أن الروس تململوا كثيرا من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليهم ليخرج الدب الروسي الجائع ليعلن ثورته على الغول الأمريكي برسالة مفادها أنه قادر على البطش وشن الحروب، والغول الأمريكي المنشغل بمشاكله بالبيت الأبيض اكتفى بعدد من الصواريخ على (مطار الشعيرات) إثر استعمال النظام الدكتاتوري لغاز السارين ثم خمد الرئيس ترامب بعد ذلك وقد تكون سكتته إلى الأبد تاركا السيد بوتن يصول ويجول على أرض الشام.
الحقيقة المرة.. الأمر من العلقم أن الدولتين العظميين أمريكا وروسيا ومعهم الدولة العبرية التي تتوعد طهران منذ سنوات وكرر المجرم نتنياهو من ميونخ من تحت قبة مؤتمر الأمن المنعقد بتاريخ 17 فبراير 2018م في نسخته الـ (54) تهديداته لإيران بالويل والثبور وعظائم الأمور، واعدا التزام دولته الصهيونية بتحطيم طموحات الفرس النووية، وهي تهديدات لذر الرماد في العيون، فالدولتان صداقتهما معروفة سرا وعلنا فهذه الدول لا تريد إنهاء الحالة السورية، والوقوف إلى جانب المعارضة أبداً وإنما النية المبيتة إبقاء الحالة كما هي.
فهذا يخدم جميع المصالح ويضرب الأمن القومي العربي في مقتل بعد خروج العراق وسوريا منه ويقدم الأمن والأمان لإسرائيل.
والدليل المقنع أمامنا لا يحتاج إلى بيان عندما أراد السيد بوش الصغير ومعه بلير الإطاحة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين رحمه الله وجيشه المليون أسقطوا ذلك النظام العربي خلال أيام معدودات، ثم أن القذافي رحمه الله عندما سير جيشه من طرابلس إلى بنغازي لإخماد الثورة هبت الإدارة الأمريكية مسرعة تضرب جيش القذافي في مهده ليسقط الرجل ونظامه في أيام معدودات.
وحتى الدولة العبرية إذا أقر المجرم نتنياهو إسقاط شريكه الأسد خلال أيام فإن ذلك سيصبح واقعاً، لكن كيف لمجرم أن يقتل زميلا له في ارتكاب أبشع الجرائم ويخدم مصالحه وقدم له هدية كبرى (الجولان).
أليس هذا كافياً لكل عربي ومسلم ليدرك أن جميع المتحاربين على أرض سوريا ليسوا سوى غزاة كل واحد منهم يأخذ نصيبه من هذه (الكعكة) التي يفوح النفط من رائحتها وتغذيها نكهة الإستراتيجية في قلب ديار العرب، ولذا رأينا أن أمريكا مثلاً تقترب من حقول النفط في ذلك البلد وروسيا الغنية به تركز على المواقع الإستراتيجية خاصة على البحر الأبيض المتوسط، والأتراك يسيرون جيشهم لتوسيع عمقهم الحدودي على حساب الأرض السورية، والإيرانيون أخذوا في الحسبان كل جنوب البلاد وحتى العاصمة دمشق ووسطها وحتى الحدود مع العراق ليصبح الطريق البري مفتوحاً من طهران مروراً بالعراق وحتى لبنان، ونشر مذهبهم من خلال مدارسهم وتشييع أهل الشام والاستيلاء على ممتلكات أهل السنة.
إذا تتعدد الأسباب والأهداف واحدة وهذا هو ما حدث لسوريا.. أرض العزة والتاريخ والمجد والحضارة.. والقوة وهذه عبر ودروس التاريخ يلقيها علينا بلغة فصحى.. فهل نفهمها؟
والله ولي التوفيق.