كَلِمَةٌ جامِعَةٌ مَحْبوبَةٌ مُبارَكَةٌ، مَنْ ظَفَرَ بِها فَقَدْ ظَفَرَ بِالحَظِّ الأوْفَرِ؛ بِها يَطيبُ كُلُّ شَيْءٍ لِمَنْ ذَكَرَها وَقَدَّرَها، وَيهونُ كُلّ ما عَداها. في قِصَصِ الحَجَّاج أنه دَعا في بَرِّيَّةٍ أعْرابِيًّا إلى طَعامِهِ، فَقالَ إنَّهُ صائمٌ، فَقالَ: إنَّهُ طَعامٌ طَيِّبٌ، فقال: ما طيَّبَهُ خَبَّازُكَ وَلا طَبَّاخُكَ! وَلَكِنْ طَيَّبَتْهُ العافِيَةُ.
وَسَمِعْتُ مِنَ الكَلامِ المَأثورِ: نِعْمَ الإدامُ العافِيَةُ؛ أيْ إنَّ الإنْسانَ المُعافى لا يَحْتاجُ إلى إدامِ الخُبْزِ، بَلْ يَلِذُّ أكْلُهُ حافًا بالعافِيَةِ. وَأشْمَلُ العافِيَةِ ما جاءَتْ في الكَلِمَةِ الجامِعَةِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ العَفْوَ وَالعافِيَةَ في الدِّينِ وَالدُّنْيا وَالآخِرَةِ».
والنَّاسُ لا يُقَدِّرونَ العافِيَةَ ما داموا فيها، كَالماءِ لا يُقَدِّرُهُ إلَّا فاقِدُهُ، فَهُوَ كَما قيلَ: أعَزُّ مَفْقودٍ وَأهْوَنُ مَوْجودٍ. فَمَنْ رُزِقَ العافِيَةَ الشَّامِلَةَ فَما سِواها لَعِبٌ في الحَياةِ وَلَهْوٌ، إنْ نالَه لَها بِه وَلَعِبَ، وَإنْ لَمْ يَنَلْهُ لَمْ يَكُنْ حَرِيًّا أنْ يَأسى عَلَيْهِ. وَاعتَبِرْ هَذا بالمَريضِ يَهونُ علَيْهِ كُلّ شَيْءٍ إلَّا الصِّحَّةَ، وَكُلُّ ما يَعُدُّهُ مَتاعًا في المَعيشَةِ أو جاهًا أوْ سُلطانًا، قَليلٌ حَقيرٌ في جانِبِ صِحَّتِهِ، وَما الصِّحَّةُ إلَّا بَعْضُ العافِيَةِ.
العافِيَةُ هِيَ بَراءَةُ الإنْسانِ مِنُ كُلّ ما يَكْرَهُ، وَعَلى الحقِيقَةِ، بَراءَةُ الإنْسانِ مِنْ كُلّ ما يَكْرَهُ العُقَلاءُ، فإنْ أسى بَعْضُ النَّاسِ عَلى ما فاتَهُ مِنْ كَنْزِ الأمْوالِ وَسِعَةِ السُّلْطانِ فأخَلَّ هَذا بِعافِيَتِهِ لَمْ يَخِلّ هَذا بِعافِيَةِ العاقِلِ، إنَّما يَخِلُّ بِالعافِيَةِ فَواتُ الصِّحَّةِ في البَدَنِ، أوِ الكَفافُ في القُوتِ، أوِ الأمْنُ في الجَماعَةِ، أوِ السَّلامَةُ في الخُلُقِ، أوْ فَواتُ أحَدِ هَذِهِ في الأهْلِ وَالوَلَدِ وَالأقْرِباءِ؛ فَمَنْ رُزِقَ العافِيَةَ في هَؤلاءِ لَمْ يَكُنْ أساهُ بَعْدُ إلَّا نَقْصًا في عَقْلِهِ، وَلَمْ تَخْتَلّ عافيَتُهُ إلَّا بِهَذا النَّقْصِ، فَهُوَ في حاجَةٍ إلى أنْ يُعافَى مِنْهُ.
فَكَّرْتُ فيما يُحيطُ بِالإنْسانِ مِنْ آلامٍ وَآمالٍ، وَما يُغْريهِ مِنْ سُمْعَةٍ وَبَسْطَةٍ في الرِّزْقِ وَسِعَةٍ في الجاهِ، وَمَرَرْتُ عَلى مَطامِعِ النَّاسِ وَأهوائهِم وَما يُعبِّدُهُم مِنَ الأحْقادِ وَالشَّهَواتِ، فاسْتَعَذْتُ بِاللهِ، فَوَجَدْتُ أمْنَعَ ما أمْتَنِعُ بِهِ، وَأعَزَّ ما ألوذُ بِهِ وَأعوذُ، أنْ أسْألَ اللهَ العافِيَةَ في الدِّينِ وَالدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَالعافِيَةَ مِنْ كُلّ ما يُنقِصُ هَذِهِ العافِيَةَ مِنْ آفةٍ في الرَّأيِ، وَخلَلٍ في الفِكْرِ.
** **
(عبدالوهاب عزام)