إلى الله أشكو لا إلى الناس فَقْدَهُ
ولوعة حُزنٍ أوجع القلبَ داخلهُ
رحيل العلماء والأحبة المفاجئ محزن جداً، يكون وقع ضرباته على هضاب القلوب أشدُ إيلاماً وحزناً عميقاً، تبقى آثاره في طوايا النفوس آماداً مديدة، ولا سيما من كانت تربط الإنسان بهم صلات رحم أو صداقة وتآلف، كعلاقتي الودية مع فضيلة الشيخ الحبيب جم التواضع عبدالعزيز بن محمد العمر أثناء إقامته بيننا قاضياً في حريملاء عدداً من السنين يتخللها تبادل في الزيارات، وهدايا من الكتب القيمة الأدبية، ولقد قضيت معه من الليالي والأيام أحلاها، نتبادل فيها بعض الطرائف الخفيفة، والحكم والأمثال..، فهو - رحمه الله - على مستوى في اقتناص العلوم المفيدة والآداب جزلة المعاني، وروائع الحكم والأمثال ..، ولسان حال كل منا يردد في خاطره معنى هذا البيت:
نُبادله الصداقة ما حيينا
وإن متنا سنورثها ألبنينا
الذي انتقل إلى رحمة الله - فجر يوم الأحد 11-5-1439هـ وأديت صلاة الميت عليه بعد صلاة العصر بجامع الراجحي بالرياض،- رحمه الله - ثم حمل جثمانه الطاهر إلى مقبرة النسيم، وتبعه خلق كثير من أسرته ومحبيه داعين المولى له بالرحمة والمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يأذن رب العالمين بنهوض جميع الخلائق ليوم الحساب، ومما حزّ في النفوس وأثار شجون المجاورين لحافات القبر وهم يُهيلون التراب عليه ما رأوهُ من تذارف دمعات أبنائه بغزارة، وبداخلهم ما به من حزن عميق، ولوعات الفراق والأسى - كان الله في عونهم وعون محبيه -..، ولقد ولد - رحمه الله - في مدينة الرياض في أوائل الثمانينات الهجرية، ونشأ فيها بين أهله وأخاه زامل وأخواته، وعند بلوغه السابعة من عمره أخذ يتعلّم مبادئ الكتابة والقراءة، وحفظ بعض قصار السور من كتاب الله العزيز الحميد في البيت وفي حلقات المساجد لتحفيظ القرآن الكريم، مما سهل عليه مُسايرة زملائه بالمرحلة الابتدائية، التي هي بمنزلة البنية الأساسية..، بل إنه فاق الكثير منهم في جميع المراحل الدراسية حتى نال الشهادة العالية بتفوّق من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1400هـ تقريباً، ولقد عُرف عنه التقى، وطيب المعشر ولين الجانب مع الكبير والصغير، وإخلاص العبادة لله، فهو محبوب لدى الجميع، وكأن الشاعر يعنيه بهذين البيتين:
وجه عليه من الحياء سكينة
ومحبة تجري مع الأنفاس
وإذا أحب الله يوماً عبده
ألقى عليه محبة في الناس
وبعد تخرّجه عُيِّن قاضياً بالمدينة المنورة فترة من الزمن، ثم انتقل إلى محكمة حفر الباطن، بعد ذلك انتقل إلى المحكمة الشرعية بمحافظة حريملاء ومكث بها مدة طويلة، ولقد وهبه الله رحابة الصدر، وحسن التعامل مع الخصوم أثناء عمله في سلك القضاء، حتى إن بعض القضايا بين المتخاصمين تنتهي برضائهما على يديه..، ومن صفاته الحميدة حضوره الجنائز في المساجد وفي مضاجع الراحلين، مواسياً كل مفجوع في قريب أو صديق وجار ..، لا يفوته يوم فيه آجر وإحسان:
وأحسن أخلاق الفتى وأجلها
تواضعه للناس وهو رفيع
ولقد قضى فضيلة الشيخ عبدالعزيز - أبو محمد - في ربوع محافظة حريملاء عدداً من السنين حوالي خمسة وعشرين عاماً قاضياً محبوباً قبل انتقاله إلى مدينة الرياض، تاركاً أثراً طيباً وذكراً حسناً:
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم
بعد الممات جمال الكتب والسير
ولئن غاب عن نواظرنا أبو محمد فإن ذكرياتنا الجميلة معه باقية ومقيمة في شعاب النفس مدى العمر.
تغمده المولى بواسع رحمته ومغفرته وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأخاه وأبناءه وبناته، وعقيلته أم محمد ومحبيه الصبر والسلوان.
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف