عبد الله الصالح الرشيد
في الحديث الشريف: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارُهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام إذا فَقِهوا)، وفي حديث آخر: (ومن يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدين) رواه البخاري، وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال سمعت - رسول الله عليه الصلاة والسلام - يقول: (العلماء ورثةُ الأنبياء وأن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً وأورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
تأملت ملياً معاني هذه الأحاديث الشريفة الحافلة برفع قيمة العلم ومكانة العلماء، وأنا أقرأ بنهم وشوق وسعادة كتاب صدر حديثاً عن سيرة رجل صالح من خيرة الفقهاء وكبار الدعاة النبلاء وأفاضل المربين الأكفاء، كاد أن يطويه النسيان بعد وفاته قبل ستين عاماً لولا رحمة الباري، حيث قيَّض له ووهبه ابناً باراً وفياً شهماً هماماً كان عند وفاة والده لا يتجاوز العاشرة من عمره لكن مشهد والده وصورته وعطفه وحنانه لم يغب عن مخيلته وتفكيره، حيث عقد العزم على أن يكتب سيرة والده مستعيناً بالله ثم بتواصله مع المعاصرين لوالده من أقارب وأصدقاء وزملاء وعلماء وتلاميذ، وكذلك ما جمعه من معلومات ووثائق وشهادات موثقة عن نبوغه وكفاحه في سبيل طلب العلم.
ومن هنا وبعد هذه المقدمة وحرصاً على وقت القارئ أجدني أميل إلى الاختصار لأدخل في صميم الموضوع، وأعرِّج إلى محطات في مسيرة هذا العالم الجليل من واقع كتاب صدر حديثاً عن سيرته الحافلة في طلب العلم مبكراً والتأهل لمجالات العمل آخرها تكليفه بالعمل في سلك القضاء.
الكتاب صدر بعد جهد جهيد استغرق تأليفه عدة سنوات بقلم ابنه الأستاذ المربي صالح المنصور بعنوان: (والدي قاضي ثريبان.. الشيخ منصور بن صالح الضلعان سيرته وأسرته)، حفل الكتاب بتفصيل سلس شيق وموثق عن حياة هذا القاضي الفاضل والمربي الجليل والداعية الملهم في أربعمائة صفحة وطباعة فاخرة وورق صقيل.
ولد ونشأ شيخنا العلامة الفقيه الورع منصور الصالح في مدينة الرس، هذه المدينة الوادعة ذات التاريخ المجيد والمجد التليد إحدى كبريات مدن منطقة القصيم الخضراء، عن أبوين كريمين والده الوجيه بهجة المجالس وجابر عثرات الكرام الشيخ صالح المنصور الضلعان من عائلة كريمة وأرومة فاضلة من أسرة الريس من الوهبة من بن تميم، ووالدته المرأة الفاضلة نورة الراشد الصالح الغفيلي وهو ابنها الوحيد توفيت بعد ولادته وقبلته في المهد ودعت له بالصلاح، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أستجِبْ لَكُمْ} (60) سورة غافر، فأنجبت هذا الصالح المصلح المنصور الذي ظل يدعو لها ويتصدق عنها طوال حياته رحمهم الله جميعاً.
وعندما بلغ السادسة من عمره بادر والده بإلحاقه بمدرسة الكتاتيب المشهورة بمدينة الرس، تعلم القراءة والكتابة ومن ثم تلقى العلوم الدينية.. حفظ القرآن والتجويد والفقه والحديث وعلم الفرائض واللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة على يد علماء أجلاء من القضاة والمشايخ الكبار أمثال قاضي الرس الشيخ محمد بن عبد العزيز بن محمد الرشيد والشيخ إبراهيم بن محمد السالم الضويان والشيخ صالح بن إبراهيم الطاسان وعلى يد علماء مبرزين في منطقة القصيم محمد العثمان القاضي وعبد الرحمن بن ناصر السعدي من عنيزة، وبعد ذلك شد الرحال إلى بريدة فقرأ على الشيخ عمر بن محمد بن سليم.. تفرغ بعدها للقراءة والبحث والدراسة في كتب مشاهير الفقهاء والعلماء حتى نبغ وذاع صيته وتم تعيينه معلماً وموجهاً في أول مدرسة نظامية بالرس، ولغزارة علمه بمناحي الشريعة الغراء اتجه الناس إليه بالفتوى في الشؤون الدينية، كما استعان به قاضي الرس في كتابه الصكوك لسعة مداركه وجمال خطه وكان يؤم الناس في الصلاة لجمال صوته، ويزور المرضى ويعطف على الفقراء واستمر على هذا المنوال والنهج القويم حتى صدر الأمر السامي الكريم لمن يلزم بتعيين الشيخ منصور قاضياً في جزء غال من بلادنا هي العرضية وقاعدتها بلدة ثيربان في تهامة نواحي القنفذة، وظل فيها قاضياً ومرشداً وإماماً وخطيباً حتى توفاه الله عن مرض لم يمهله طويلاً ودفن هناك وكان لوفاته رنة أسى وحزن لدى أهالي العرضية الجنوبية نساءً ورجالاً بعد فراقه - رحمه الله -.