د.عبدالله الغذامي
ـ 1 ـ
كيف تتغير سنةٌ عن سنةٍ ...!!
وما معنى السنة الجديدة ...!!
ما فرق أمس عن اليوم ...!!
تلك أسئلة طفولية توجهها طفلة صغيرة إلى جدتها، وكان اليوم صبحية يوم عام جديد ، وكانت أيضا صبحية يوم دراسي ، أي أنه يوم عمل ، بمثل ما إن زيارات الجدة للعائلة معتادة ، والطفلة تيقظت للتومن نومها ولبست ملابسها التي كانت تلبسها يوم أمس، وتريد تناول فطورها الذي تعهده ، ثم تذهب لمدرسة كانت تذهب إليها في كل يوم فات، وها هي جَدتها تناولها كأسا من الحليب في موقف متكرر كما كانت تفعل كل مرة حين تزورهم ، ولكنهم ظلوا يقولون لها إن هذا اليوم هو أول يوم للسنة الجديدة....!
كيف هي سنة جديدة .... ما الذي يفرقها عن السنة التي ستصبح قديمة ....!!!!
هنا سيحضر نيوتن في الصورة، ذاك الطفل الذي كان طفلا كأي طفل في مجتمعه ولكنه تحول ليصبح عالما اخترق كل تاريخ العلماء وصنع لنفسه كرسيا مخلدا في ذاكرة العلم والتغيير المعرفي الكوني ، وذلك لأنه سأل سؤالا بسيطا عن تفاحة سقطت من الشجرة وانشغل عقله بها كيف بها تسقط إلى تحت ولم تصعد لفوق ، وما الذي أسقطها ، وطبعا لم يجد جوابا ، ولكن الطفل قرر أن يبحث عن الجواب ، وحين شب عن الطوق وصل إلى كشفه التاريخي عن قانون الجاذبية بسبب سؤال طفولي كان مجرد شغب طفولي بحسب عرف مجتمعه حين ذاك .
وكذا هي الطفلة خيرية ... شاغبها سؤال عن السنة الجديدة وعن يومهم ذاك الموصوف بالجديد وهل يفرق عن الأمس وهل له لون كما لون الحليب ، وكان الحليب هو المشهد الماثل في حضرة السؤال ، وكانت الجَدة تقدم كأس الحليب لحفيدتها التي تسأل جدتها : كيف أعرف اليوم الجديد .... هل له لون كلون الحليب ... !!!!! .
لم يأتها جواب طبعا ، ولكنها اضطرت لشرب كأس الحليب بما إن هذا طقس يومي تلتزم به الطفلة لكي تذهب للمدرسة.
وإن كان السؤال تاه لأنه بلا جواب إلا إن الحليب والبياض والأم ظلت تتعامق في ذهن الطفلة .
وعبر هذه الدلالات الثلاث تولدت سيرة القلم والمحبرة والورق ، وولدت خيرية السقاف الكاتبة .
تحولت الطفلة خيرية إلى كاتبة لأنه لم تستطع أن تتخلص من مغبات سؤالها الطفولي عن لون السنة الجديدة وما الذي جعلها جديدة وما علامات جِدتها .... واقترن ذلك بجو ميلاد السؤال ، وهو الحليب والبياض والأمومة .
هذه دلالات ترتبط ببعض وعبر ارتباطها تتوالد ، وكلما قرأنا نصوص خيرية السقاف سنجد هذه الدلالات تنمو وتتجدد مثل نمو السنوات سنة بعد سنة ، مع أن كل السنوات واحدة ، ولكن يظل التمييز بين عام وعام يخترع مساره ، فللأعوام أسماء تتصنع على الألسنة وتتعزز بالتذكر، ورصيد كل واحد منا هو عدد من السنين تتوزع في التمرحل تماما مثل سنوات الدراسة بمراحلها وطعم كل مرحلة عن مرحلة ، وينمو خيالنا كما تنمو عقولنا حسب تقلب سنواتنا.
ظلت شجرة السؤال الأول عن لون اليوم الأول من السنة وهل هو أبيض كالحليب ، ظلت تأخذ مساراتها كتابة وليس أجوبة ، والفرق أن الجواب إذا تم فإنه ينهي حرقة السؤال ، ولكن السؤال يظل يحرق نفسه ويحرق حامله ما دام بلا جواب.
ورحلة خيرية السقاف تشير إلى هذا وقد رصدتُ مئات المقالات لخيرية السقاف بعناوين: الحليب، البيضاء، الأم .
ثلاثية يربطها دوما اسم مبتكر هو : نوارة.
ونوارة هي رمز للأم وشجرة الأمومة ، بما إن الأم شجرة جذورها أمومة وامتدادها أمومة. ابتدأ ذلك في سيرة خيرية مع جدتها لأمها حيث قصة العام الجديد والحليب والسؤال ، واتصلت الشجرة بأم خيرية سليلة الجَدة ، ثم بالكتابة نفسها بوصف الكتابة تمثل السؤال الملح الجاري خلف البياض والحليب والنور ، وظلت تذهب وتعود مع دلالات البياض والحليب والأم ، ليتكون المعنى الكلي لهذه الدلالات تحت عنوان : نوارة
ومن المهم ملاحظة أن نوارة ليس اسم والدة الدكتورة خيرية السقاف ، ومن هنا ندرك القوة الرمزية لهذا الاسم ، ونواره تصبح كل معاني الأمومة وتتحول الكتابة كلها ملحمة لغوية وإبداعية وأخلاقية تحت ظلال النوارة ، هذه النوارة الحاملة لكل المعاني والصانعة لكل الدلالات .
ـ 2 ـ
تلوين الكلمات
تتشكل الدلالات الكتابية عند خيرية السقاف عبر تلوين الكلمات ومنح معانيها قيما تقوم على اللون الأبيض وتنويعاته ، وكما كان سؤالها الطفولي المبكر عن لون السنة الجديدة الذي احتاجته للتمييز بين عام وعام ، ذاك العام الذي تفاجأت به صبحية ذات يوم حين أخبروها أنهم كانوا في عام جديد، ولم يسطع أحد تحديد سمة تمييز ذلك اليوم الأول من السنة الجديدة وما فرقه عن أمس الذي أصبح عاما ماضيا، وبما إن كأس الحليب كان ماثلا لحظتها فالمقارنة كانت مطلوبة عما إذا كان اليوم الجديد مثل لون الحليب، ولم يأت الجواب، ولكن السؤال ولون كأس الحليب ظلت كلها ترافق مخيلة الطفلة حتى تحولت إلى قيم دلالية تشبك ذواكر نصوصها الكتابية وتغزل دلالاتها المتولدة بتلقائية إبداعية ، ولنأخذ بعض جمل هي علامات على النوى الدلالية التوليدية في خطاب خيرية السقاف الإبداعي الدائر نحو مفردة تصنعت عبر النصوص، هي مفردة ( نوارة ) معبرة عن الأم وعن منظومة المعاني المتحولة دلالة وتشكيلا مربوطة بشجرة المعاني عن الأم والميلاد والبياض والحليب:
• الكلمة هي الشمعة والنجمة والشمس والنار / الجزيرة 22 / 9 / 2012
• أنت يا نوارة
بصرك المشع الذي كان يحتويني
يمتد نحو خطواتي
وأنت هناك في برزخ رباني أتانا نبأه وخفيت علينا حقائقه 20 / 9/ 2012
• لكنك يقظة يا أمي ... لم تغيبي
لم تكوني لحظة غير حضور النور وتأويل الخبر
يا نوارة يا أعيادي المرفرفة في أعماقي ... يانوارة
/ 7/4/ 2011
• هنا حضرت نوارة
وأول الذي قالت لي : كوني لجروحهم بلسما
ولأنك سعادتي .. وإنك أنت سعادتي يانوارة
حضرت بكامل حديقتك ، 10 / 11 / 2017
هذه نماذج لجمل دلالية انتقيتها من نصوص خيرية السقاف على مدة عمرها الكتابي كله ، تمتد وتتعاود عبر السنين والشهور والأيام ، مقالة تلو مقالة ، وقصة تلو قصة ،وقصيدة تلو قصيدة ، في مشروع إبداعي يقوم على تلوين الكلمات ، وتلوين الرمزيات وتلوين المعاني في عناوين كاشفة من مثل: من أنتِ / بيضاء كالحليب / لكِ وحدكِ /صبحها المزهر في الحضور / حضورها المفعم / في غربتها / لا غير المطر.
وعبر هذه الشبكة المترابطة من التعبيرات الملونة والمرمزة تأتي الأم بصيغها المتعددة ، فهي العين وهي الحضور وهي الجِدة وهي الطفلة والطالبة والباحثة وهي الشمعة والنجمة والغيمة والمطرة والشمس .
وهي البياض الصافي ، هي النوارة .
ونوارة الرمز المشع من الأم انطلاقا وابتداء هي المكرر الدلالي والمتوالد الرمزي الذي يشمل كل شيء له معنى الحياة ومعنى التأنيث .
هنا تغزل الدلالات نفسها بين يدي قلم خيرية السقاف الناسج لمعنى الحياة بسماتها المغزولة في كل جمل تركب كلماتها لتصنع الشمعة والنجمة والشمس التي تصنع نار الكمات وتجعلها تتقد بالحيوية والديمومة والحضور : ( لأنك يقظة يا أمي ... لم تكوني لحظة غير حضور النور وتأويل الخبر يا نوارة ) .
هي الحضور وهي تأويل الخبر ، وهي السؤال وهي الحليب والبياض .
هي المعنى المتحول ما بين عام مضى وعام يأتي ..
ولم يسطع العام الجديد أن يغير لون الأعوام لأنها كلها نوارة وكلها حليب أبيض وحضور لم يغب لأن نوارة لم تكن لحظة غير حضور النور وتأويل الخبر .
ولكن ما الخبر الذي كان محتاجا للتأويل .....!!!!
ذلك سؤال يعود لزمن قديم كانت خيرية فيه طفلة صغيرة واحتاجت لأن تسأل عن ما تسميه الثقافة بالعام الجديد واحتارت الطفلة خيرية في أسئلتها كيف تتعرف على هذا الجديد وما لونه ، وهل هو أبيض كالحليب ....!!!
وعجزت الجدة أن تعطي حفيدتها جوابا على السؤال عن عامهم المسمى جديدا وما لونه وما هويته وما فرقه عما قبله . وهناك في لحظة الطفولة المبكرة انغرس السؤال وظل ينمو مثل نخلة باسقة تشق طريقها في فضاء الله .
وظلت خيرية تلاحق السؤال كما يلاحق الأطفال صورة القمر في وجه الماء، وكلما اقتربوا منه فر من بين أيديهم ويظلون وراءه ، متعتهم في هذه اللعبة التي تمنحهم الفرحة والحيوية .
هكذا ظلت الطفلة خيرية تنمو مع سؤالها المشاغب عن لون الحياة ولون الزمن ولون المعنى ، وظهر ذلك في عناوينها : أن تبحر نحو الأبعاد ، والبياض ، ونوارة ، والشمعة والنجمة والشمس والحضور .
ويظل مشروع تلوين الكلمات والرمزيات والمعاني ،وقطب ذلك كله : نوارة ، نوارة المتعددة عبر اللغة وعبر الدلالات في بحث متصل عن زمن ملون وعن قمر يسبح على وجه الماء ، فيه لون الحليب وفيه معنى الحضور ، وإن كانت نوارة في برزخ جاء عنه النبأ وخفي لونه وكنهه ، كما خفي لون تلك السنة التي مرت على الطفلة وظلت تمر باحثة عن لون تمنحه لها طفلة ظلت تجري بإثر القمر على وجه الماء ، كذا هي خيرية السقاف وهي تغزل ملحتها الإبداعية بقلم صفته الثراء والعطاء والاتصال مع كل معنى جميل ومعطاء .
وفي النهاية، فإن المبدعة التي لم تجد جوابها ظلت تصنع صيغا غير متناهية عن معنى أبداعي يعمد لتحويل الزمن إلى لون يتشكل عاما بعد عام ، ومقالة بعد مقالة ، وكل قارئ أو قارئة لنصوص خيرية السقاف ستتشكل أمام باصرته ألوان تعيد تركيب معاني الزمن واللغة والدلالات ، وهذا يتكشف فيما كتبته من سرديات ومن نثريات ومن شعريات ، ويظل لون الزمن ولون الكلمات يتحول ويتوالد في خطاب متصل لا يشبه أي خطاب آخر في ثرائه وتلويناته .
** **
- الرياض 12 / 1 / 2018
ورقة ألقيت في ندوة التكريم بمهرجان الجنادرية