عبدالعزيز السماري
كشفت أزمات العراق ثم سوريا فداحة الضعف العربي الداخلي بصورة غير معهودة، فقد اتضح أنهم دول تقوم على المزايدات مع الخارج والقمع الداخلي، لأنهم ضعفاء وغير محصنين ضد الخارج، بينما يستخدمون القبضة الحديدية ضد الداخل، ولهذا تبدو الصورة في سوريا معبرة للغاية، فالأرض العربية وأرض المجد العربي في عصور الأمويين تُنتهك بشكل غير مسبوق، وبمباركة من أقليات باعت الأرض من أجل أن تستمر لبعض سنوات أخرى في كرسي حكم هزيل.
ما يحدث هو إعادة لسيناريو دويلات الطوائف السياسية في الأندلس، وذلك عندما باع بعض الحكام ولاءاتهم للعدو الخارجي مقابل أن يستمروا حكاماً لأرض سلموها باختيارهم وخنوعهم للأجنبي، لكن خطورة السيناريو الحالي أنه يحدث على أراضي العرب التي انطلقوا منها إلى العالم، وهو يمثل انحطاطاً غير مسبوق في تاريخ العرب منذ يوم ذي قار.
كانت أنماط الحكم العربي الهزيل مستوحاة من فلسفة الديك السياسية، والتي تقوم على صياح لا يتوقف منذ بزوغ نور الفجر إلى مغيب الشمس، ويظهر الديك كل صباح في زهو غير مسبوق، ويمشي بخيلاء وكبرياء لا يُقارن، ولا يتوقف عن قمع من حوله من شعبه الذليل، لكنه عندما يأتي الخطر من الخارج يكون أول الهاربين من الميدان، وذلك ما يحدث في بعض الدول العربية.
فقد أجاد بعضهم أداء دور الديك المزهو بالألوان والغرور، والذي لا يتردد في ضرب من حوله من المغلوبين على أمرهم.. لكن عند أول مواجهة مع الخارج يبدو ذليلاً وخانعاً لمطالب الغريب، وهذه الفلسفة الديكية تمثل أزمة عند بعض العرب في السياسة، وهو ما يجعل من الأجنبي يمر من دون استئذان في أراضيهم وعبر أجوائهم، ولا نحتاج لدليل، فالمشهد في سوريا يختزل كثيراً من أجزاء التاريخ العربي المعاصر.
كانت ليبيا في عصر القذافي نموذجاً لفلسفة الديك السياسية، فالألوان والكبرياء والصراخ كانت حاضرة بقوة في المشهد السياسي، ووصل القمع إلى درجة غير مسبوقة في التاريخ العربي، فقد تم إجلاء مختلف الأصوات الأخرى في الميدان، ولم يبق إلا صوت الديك الأكبر في البلاد.
لا يمكن أن تواجه الخطر الخارجي من خلال شعوب مكسورة ومقموعة، فخط الدفاع الأول هو كرامة الإنسان وحقوقه المشروعة، وإذا توترت العلاقة بين الحكومة والشعب تُصبح الطرق ممهدة لدخول الأجنبي إلى الداخل، وقد حدث في العراق شيئاً من ذلك، فالشعب توقف عن الدفاع عن الوطن، وترك الحاكم المستبد يدافع عن نفسه، وكانت النتيجة دخول الغرباء من الشرق والغرب إلى الوطن.
ولهذا من الحكمة السياسية أن يكون الحاكم قادراً على إدراك مراحل الوعي في تطور المجتمعات، وبالتالي مواكبتها من أجل هدف واحد، وهو استمرار الولاء للدولة، وبالتالي حمايتها من الداخل والخارج من خلال نظرية البنيان المرصوص، ولهذا السبب كانت ولازالت دول الملكيات العربية أكثر حكمة وأقل تهوراً وأقل اندفاعاً في أدائها السياسي، فالعلاقة بينها وبين شعوبها كانت أقرب للود والتراحم، كذلك قدرتها على إتقان الأداء السياسي أمام شعوبها بدون طغيان وزهو وغطرسة.
كانت الخطوة الأهم في مسيرتها السياسية قدرتها على تقديم العفو عند المقدرة، وعدم دمويتها، ومراجعة قراراتها السابقة إذا اكتشفت أنها غير صحيحة، وهو ما يفتح الباب أمام الوعي السياسي ليكون في طريقه الصحيح، والذي حتماً سيصل يوماً ما إلى أن يكون في مستوى من الاستقرار والرخاء الذي يسمح بدخول العالم الحديث من أوسع أبوابه.
لهذه الأسباب لازلت أراهن أن الملكيات العربية ستكسب السباق في نهاية المطاف عند مقارنتها بالجملوكيات العربية، والتي ورثت الاستبداد من التراث الشوفيني، لكنها اختارت أن تقلد الديك في حكمها السياسي، والذي فتح الباب لدخول الأجانب والاستعمار للدخول إلى قلب المنطقة العربية.