د. أحمد الفراج
يا بُنَيَّ،
الغنى لا يمكن أن يُعَدِّل طباع رديء النفس، والفقر لا يمكن أن يغطي شيم الرجال، ومن جبلت نفسه على السوء، فلا يمكن لأعتى قوة أن تُغيِّر ذلك، ولا يغرنّك كثير الحديث، فكم من صامت كان لك سند، وأنت عليه عاتب، وكم من صاحب وعود، ينسى غداً ما وعدك به اليوم، وليس كل من صادقك صديقاً، فبعض الصداقات سم زعاف، وكم من عدو كان لك درعاً من وشاية صديق، ولا تسلك طريقاً فرعياً وأنت ترى الطريق الواسع، فالطرق الفرعية لا يُرى من يسلكها، واحذر أن تقف في منتصف الطريق، ولا تقل يوماً إن هذه قمة عالية، فمن يتهيب الصعود، سيبقى دوماً بين الحفر، ولا تلازم نماماً، فهناك من لا يجد طريقاً لكسب ثقة الناس، إلا عن طريق هتك الأستار، وإذا نازلت فارساً، فكن على قدر النزال، وإياك أن تواصل المنازلة، بعد أن يسقط سيف خصمك، فهذه ليست فروسية، بل ستنقل سيوف الناس كلها إلى يده، ولا تصدِّق إلا القليل مما تسمع، فبعض ما يُقال هو حفر، يراد لك أن تسقط فيها على أم رأسك.
يا بُنَيَّ،
إياك أن تستوحش طريق الحق، الذي لا يسلكه معظم الناس، لأن الحق صعب المنال، فلا تجعل هذا يصدك عن البحث عن الحقيقة، وكن على يقين بأن النبل عبارة عن موقف، قد تعلم عنه وقد لا تعلم، فكم من سند لك وأنت لا تعرفه، وكم من صديق قريب، سخّر ذاته لوضع الأشواك في دربك، وقد ركبت البر والبحر، ومخرت عباب السحاب، وعاينت أصناف البشر، فما وجدت أسوأ من الخديعة والكذب والخذلان، وقت الحاجة والشدة، فلئن كنت تسعد بخدمة محتاج، فبعضهم ليسوا كذلك، إذ يجدون لذة في ذل صاحب الحاجة، بل يستمرؤون ذلك، ولئن قدّر الله لك أن ترد لهم الصاع بمثليه فلا تتردد، فالرديء لا يستحق إلا أن يعامل بالمثل، فهناك من الناس من يفسر الحلم واللين والحكمة على أنه ضعف، ويتمادى في ذلك، فاعلم أن مثل هذا، لا يستقيم لك مُقَدِّراً، إلا بعد أن تنزله عند حجمه وقدره، وحينها ستجده أطوع من بنانك، إذ إن إعادته لحجمه، تعيدك أنت لحجمك، وهذه طبيعة النفوس التي جبلت على السوء.
يا بُنَيَّ،
عندما تدلف في دروب الحياة، ستجد الفرسان والأنذال، فإياك أن تخطو نحو الرديء من الناس، وأنت تدرك الفرسان فوق ظهور الخيل الجامحة، فلا تتهيب من الفارس، حتى ولو بدا لك مهيباً، فهذا طبع الفرسان، إذ دون تلك الهيبة، يكمن النبل والكرم والسماحة، والذي نفسي بيده ما خسر، إلا من جعل رهانه على السائس، وهو يرى الفارس رأي العين، فالسائس سيطلق وشاية، بأنك تريد أن تجفل الخيل الجامحة، مع أنك تريد معانقة الفارس، ولا تتردد في مناشدة أهل النفوس الكبيرة، فالكبير لا يحسد ولا يحقد، مهما حاول الصغار تعديل جبلة نفسه الأبية، فلم تتعب أجسام الكبار، إلا من أجل نفوسهم الكبيرة، ولا تغضب من جور الزمان، فلربما أراد الله تخليد قصص من كانوا ثم أصبحوا، ليكون هذا نبراساً لأجيال وأجيال، فلكم رأينا مثيلاً لهم في كل حين، فالطيور ترتفع ثم تقع، وكذلك الناس، ولله وحده حكمة في ذلك، لا يعلمها إلا هو، وأخيراً، عليك بنفسك، ثم نفسك، ثم نفسك، ثم الأقربين، ثم المخلصين، وبعد ذلك نم هانئاً، واحدوا مع الأستاذ:
«أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصموا».