عماد المديفر
إن هاجس السيطرة على الرأي العام أضحى أكثر حرجاً وصعوبة عما كان عليه في العشر أو الخمس عشرة أو الثلاثين سنة الماضية، بل إنه -في الواقع- لم يعد متاحاً اليوم.. ومن يفكر بهذه العقلية التي عفا عليها الزمن، فإنما هو بعيد جداً عن الواقع، ولا يزال يُخادع نفسه!
إذ الإمكانات والوسائل والأدوات التي كانت متاحة للسيطرة على ما يمر وما لا يمر من المعلومات والرسائل الإعلامية طيلة السنوات الماضية التي سبقت عصر المعلوماتية، لم تعد متاحة اليوم.. والنظرية الإعلامية الشهيرة «حارس البوابة» التي ظلت مسيطرة على العديد من الدراسات والتحليلات والتطبيقات العملية في زمن مضى، والتي تتحدث عن دور «حارس البوابة» في التحكم في فلترة وتوجيه الرسائل الإعلامية والمعلومات للجمهور، والتحكم بطريقة وأسلوب العرض والصياغة.. لم تعد كذلك. فالتقنية الآن أصبحت واقعاً، والسوشال ميديا جعلت بإمكان الجميع التعبير عن رأيه بحرية متناهية، سواء من خلال أسمائهم ومعرفاتهم الحقيقية والظاهرة والصريحة، أو حتى تحت غطاء أسماء ومعرفات رمزية، مع قليل من مهارات الهروب بشكل أو بآخر من التعقب..
من الصعوبة بمكان اليوم الإبقاء على المعلومات مقفلاً عليها بالقفل والمفتاح.. وويكيليكس مثال صارخ على ذلك، لذلك فإنه من الأهمية بمكان التعاطي والتفاعل مع هذا الأمر بإيجابية، وعدم التعاطي معه بعقلية متحجرة.. بل بعقلية منفتحة جداً.. رغم طبعاً ما قد يحمله هذا الأمر من مخاطر محتملة قد تحدث.. لكنها في ذات الوقت؛ مخاطر متوقعة وربما تكون ضرورية أيضاً.. وهنا تبرز أهمية مفهوم الشفافية.. والذي ارتفعت قيمته كثيراً وفق المعطيات التقنية والإعلامية المتجددة.
لا شك أن لدينا ثقافة متحفظة تخاف من المخاطرة أو الدخول في أشياء أو التعامل مع أمور بشكل غير تقليدي، بشكل جديد.. لكن علينا الولوج لهذه المغامرة المهمة.. إذ لا بد مما ليس منه بد!
وهنا يأتي مفهوم الابتكار والتجديد في التعاطي مع بروز فاعلين جدد على الساحة.. سواء أكان لهؤلاء الفاعلين الجدد القدر الكافي من الفهم، والوعي، والرأي العام الجيد، أو الاطلاع الجيد.. أو العكس، ما إن كانوا يفتقرون لهذه الأمور.. إن كُلها، أو حتى بعضها.. وهذا هو الغالب.
أقول هذا القول لأؤكد أن الأمر ليس سيئاً لهذا الحد كما يتوقع البعض ربما. ولنستدعي ضمن هذا السياق الدور التقليدي لوسائل الإعلام التقليدية، وخاصة في الدول ذات الانفتاح الكبير في تقبل الآراء والأفكار المختلفة.. وذات الحريات الكبيرة في إبداء الرأي، وكيف أنه كان يُنظر لوسائل الإعلام كـ «Watchdog» أو سلطة رابعة تراقب الأداء، وتنتقد، وتُقيّم النتائج، وتقترح، وتكشف الأخطاء.. اليوم أصبح صوت المواطن عبر وسائل التواصل الاجتماعي سلطة خامسة أيضاً.. أو « Watchdog» آخر.. لذا علينا التعاطي مع هذا الموضوع بإيجابية، والابتعاد عن التعاطي التقليدي.. علينا شكر المواطن، لاسيما إن كان مواطناً صالحاً صادق النية والمطية.. وهو ما بدا واضحاً عند فئة كبيرة من المغردين الوطنيين الذين وقفوا مع الوطن وقفة صادقة مخلصة من خلال تغريداتهم وتفاعلاتهم إبان ما سُمي بثورات الربيع العربي.. الأعوام 2011، 2012، 2013 و2014م .. في بدايات انتشار «تويتر» وفورته، وفي أوج المعامع والفتن الإخوانية والصحونجية.. وهو واجبهم دون شك.
لذلك؛ أرى أنه من الضروري اليوم الانشغال بتطوير الوعي العام.. وتحسين الرأي العام.. من خلال مزيد من الشفافية، واطلاع العامة على حقائق الأمور وما قد يكون خافياً عن البعض، أو مشوشاً عليهم.. إذ استمرار الغموض أو حالة التعرض للتشويش والدعايات المغرضة قد يتسبب في خروج رأي عام غير جيد..
وهنا ينبغي التفريق بين الرأي العام والقرار العام.. وتفهم مزاجية الجماهير، واتخاذها اتجاهاً ما، أو تحيز لرأي ما.. وهنا تتجلى أهمية العمل على تحسين أدوات الجماهير للفهم؛ بغرض تطوير جودة هذا الرأي أو ذاك.. فهناك «رأي عام».. وهناك «رأي عام جيد» و»رأي عام سيء».. وهنا أتحدث عن «نوعية الرأي العام».. وأتحدث أيضاً عن الجمهور الواعي.. والجمهور غير الواعي..
إن مفتاح التطوير في اعتقادي، وفي عصر الشبكات المعلوماتية، يكمن في خلق توازن جيد بين الجمهور وبين الخبراء وأهل الحل والعقد والمسؤولية العامة.. إذ دائماً ما يعتقد الخبراء أن لديهم هم وحدهم الرأي الجيد.. وبالتالي أصبح لدينا اعتقادٌ أو اتجاه ثقافي لربما أصبح متأصلاً.. يرفع من شأن المعرفة المتخصصة للخبراء، ويضعها في مرتبة الشرف العالي، وفي نفس الوقت يقلل من شأن الإمكانات المهمة لمساهمة الجمهور أو العامة.. وهو ما يسمى بثقافة «السيطرة الفنية» والتي لا شك أنها مفيدة في المجالات العلمية الطبية مثلاً.. أو الهندسية والتقنية، لكنها ليست دائماً كذلك إذا ما أردنا تقوية «القرار العام» وتقوية «وحدة الصف» و «الشعور بوحدة الهدف والمصير»، الأمر الذي ليس لنا غنى عنه إذا ما أردنا بناء الإجماع أو الالتفاف العام حول موقف موحد.. إذ وحدة الصف تحتاج إلى موقف موحد ثابت تجاه القضايا الرئيسة، وهذا لا يتأتى إلا بخلق حالة من التوازن بين رأي الخبراء والجمهور، وهو ما لا يمكن الوصول إليه إلا بتحسين الرأي العام.. ومعرفة دوافع الجماهير لاتخاذ هذا الموقف أو الانحياز لذلك الرأي، وتفهمها، والتعاطي بإيجابية معها، والإفادة منها، وتحسين أدواتها في الفهم والاستيعاب لنصل معاً لرأي عام جيد.. لا سيما في ظل الدعايات الخبيثة التي تستهدف وحدتنا الوطنية والتشكيك في كل رأي وطني كان له موقفه الواضح والراسخ في المسائل الكبرى الرئيسة إبان معامع الثورات التي أشعل جذوتها دعاة الفتنة والشقاق والنفاق من أرباب الإسلام السياسي وشركائهم اليساريون.. إلى اللقاء.