د. جاسر الحربش
استعمل الفكر العربي والإسلامي الأول كلمة الحكمة بمعنى الفلسفة، من فعل حكم على حقيقة الشيء بعقله. تحريم الاتصال بين الشريعة والحكمة (الفلسفة) قبل ثمانية قرون أدى إلى قتل المفكر العملاق (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) الطبيب العالم (كتاب الكليات في الطب) أبي الوليد ابن رشد وإسكات وتشريد مقلديه وتلاميذه، وماهي إلا سنوات قليلة حتى هبط الظلام والجهل والتفكك على العالم الإسلامي، بينما نهض غيره بالعلم الذي حرمه الفقهاء المسلمون على المسلمين وزندقوا به المفكرين.
من يحرم الفلسفة ويقرنها بالتزندق لا يعرف أنه يحرم استعمال أثمن ما وهب الله للإنسان من قدرات عقلية للتفكير المنظم وترتيب الأفكار للوصول إلى استنتاج مترابط ومفيد تستطيع الأجيال اللاحقة البناء عليه. لأن الحلال الواضح بين والحرام الواضح بين وبينهما أمور مشتبهات نجد أن معضلة الفشل البشري وصراعاته غالباً ما نشأت بسبب القطع في المشتبهات بالتحريم، وخصوصاً ماله علاقة بتجديد الأفكار والإبداع والعلاقات البشرية، ولا شك أن الفلسفة هي الأم الولود لهذه العلوم.
الوضع الذي ما زال العالم الإسلامي بكامله يعيش فيه من التنميط الفقهي لما هو حلال أو حرام، من المغرب الأقصى إلى أفغانستان وباكستان، هو نفس الوضع الذي كان يعاني منه الغرب الأوروبي مع الكنيسة وتعاليمها قبل خمسة قرون. حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي كانت القارة الأوروبية بكاملها تغط في ظلام الجهل الدامس الذي يسمونه عصور الظلام، فلا علم إلا ما تسمح به الكنيسة ولا حلال أو حرام إلا حسب ما تقرر الكنيسة، وكان التفكير العقلي المنهجي القائم على الاستنباط على رأس المحرمات. حدث الاحتجاج على التسلط الكهنوتي ضد العقل والحريات الفكرية من داخل المؤسسة الكنسية نفسها عندما نشأ التيار الإصلاحي وقام بكشف فساد ونفاق البابوات والكرادلة والقساوسة، وتكريسهم للجهل والإقطاع كمطلب احتسابي يدخل صاحبه جنة السماء بعد مغادرة حياة الأرض. ذلك الاحتجاج التنويري لم يلد نفسه وإنما تولد من اطلاع بعض الرواد المفكرين وحكام المقاطعات الأوروبية المستنيرين على أعمال ابن رشد وابن باجة وابن طفيل والفارابي وابن سيناء وابن زهر وغيرهم، ووقوفهم على المنجزات العلمية والمعمارية في جنوب قارتهم الأوروبية.
ما إن ارتخت قبضة الكنيسة على التحكم بتنميط الحلال والحرام حتى اشتعلت العقول الأوروبية وانشغلت بالعلوم الطبيعية وعلوم الحياة وما بعد الحياة. هكذا بدأ الانفجار العلمي والتقني الذي نشاهده اليوم ونقايض منجزاته كمسلمين بريع الأرض وبالتبعية الحضارية والعسكرية. باختصار، ما كانت تحرمه الكنيسة الأوروبية قبل خمسة قرون يتطابق تماماً مع ما يحرمه الفقه الإسلامي المؤسساتي اليوم، وأهم ما فيه تحريم الفلسفة أي التفكير المنهجي المنظم. عندما نبدأ من حيث بدأ التنوير الأوروبي قبل خمسة قرون حين استلم المشعل من فلاسفة وعلماء العرب والمسلمين الأوائل، حينئذ تبدأ النهضة الحقيقية وتنتهي صراعاتنا القبلية والمذهبية.