حمّاد السالمي
- قرأت في الأخبار المنشورة قبل أيام قلائل ما يفيد بعزم الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني على إصدار مئتي ألف تأشيرة سياحية خلال العام الجاري، ومليون أخرى خلال العام القادم 2019م. وقرأت ما نشر كذلك عن أنشطة هيئة الترفيه بما يفيد البدء في بناء (دار للأوبرا)، وتنفيذ قرابة خمسة آلاف فعالية هذا العام في برنامج يستهدف بلوغ خمسين ألف فعالية عام 2030م.
- قرأت هذه الأخبار السارة في الوقت الذي أعكف فيه على قراءة كتابين إهداءً من سمو الأمير (سلطان بن سلمان بن عبد العزيز). الكتاب الأول بعنوان (الخيال الممكن)، والثاني عنوانه (البعد الحضاري للمملكة العربية السعودية) مشاركة مع الأستاذ الدكتور (علي الغبان)، مستشار رئيس هيئة السياحة. والكتابان في المجمل يوثقان لمرحلة مهمة، عمرها تسعة عشر عامًا من عمر هيئة السياحة في المملكة، كما أنهما يؤسسان للفكرة السياحية، ويؤطران المفهوم الحضاري العام للاستثمار في الميدان السياحي، وذلك من خلال المكنز التاريخي الكبير للآثار والتراث الوطني بمختلف أشكاله وألوانه.
- توقفت كثيرًا عند كتاب (الخيال الممكن) للأمير (سلطان بن سلمان)؛ وتذكرت كيف كانت مفردة (السياحة) قبل ثلث قرن مفردة ملوثة سمعيًّا، ومشوهة تاريخيًّا واجتماعيًّا عند فئة متشددة في المجتمع، كانت تنشط وتجهد وقتها في ملاحقة الفعاليات الفنية والثقافية في منطقة عسير ومحافظة الطائف تحديدًا. ملاحقتها بالمراقبة، والتشويه، والتهم، والعرقلة أحيانًا. ها نحن اليوم نصل إلى ما هو أبعد من سياحة محلية محدودة الفوائد، ونسعى للاستحواذ على حصة مستحقة لنا في سوق السياحة العالمي، الذي تصل فيه دولة مثل إسبانيا إلى استقبال ستين مليون سائح ومئات مليارات الدولارات سنويًّا. وكانت مصر قريبة من هذه المرتبة عام 2010م، بدخل سنوي يصل إلى اثنين وثمانين مليار دولار سنويًّا. بلادنا - بحمد الله - تتشوف إلى مثل هذا وأكثر، وتحث الخطى لتصل إلى مجال اقتصادي نشط في ميدان السياحة، تكشف من خلاله عن جمالياتها التاريخية والبيئية والتراثية. بلادنا تملك كنوزًا حضارية مغرية في طول البلاد وعرضها، وأستطيع القول بكل فخر إن العجلة تدور الآن بعزم وحزم؛ لاستغلال هذه الكنوز؛ بهدف توفير فرص عمل أكبر لمواطنينا، وخلق مداخيل بديلة للنفط، الذي ظل هو المصدر الوحيد للثروة الوطنية طيلة ثمانين عامًا.
- يبدو أن الأفكار العظيمة تبدأ عادة بخيالات صعبة وأحلام أصعب، وتجابه بتحديات كبيرة؛ لهذا.. فهي عظيمة دائمًا، لكنها ليست مستحيلة إذا واكبتها إرادة قوية وإدارة حكيمة. إن رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني يضعنا بداية من عنوان كتابه القيّم في صورة من إرادة سياسية فاعلة، وقفت خلف هذا المنجز الكبير، الذي أصبح على مشارف استضافة عشرات الملايين من السياح من عشرات البلدان. فنحن لسنا طارئين على الحضارة البشرية، وليس لدينا ما نخفيه أو نخجل منه، بل لدينا ما نفخر به، ويدهش العالم كله. مثلنا مثل بقية بلدان العالم المتحضرة، التي تدرج معالمها وآثارها وموروثها الحضاري على خط الاستثمار؛ فنحن في بلد تاريخي عريق، يملك ثروة عظيمة من المعالم التاريخية والآثار والتراث الاجتماعي، ويفخر بأن يعرضه أمام العالم، وأن يشكل مصدر دخل بديل لثروة ناضبة هي النفط.
- كتاب (الخيال الممكن) للأمير (سلطان بن سلمان) يوثق تجربة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني منذ ظهورها عام 2000م، ويستوحي فكرة العنوان من كلمات تاريخية لخادم الحرمين الشريفين (الملك سلمان بن عبد العزيز) في زيارة له للهيئة عام 2005م؛ إذ قال وقتها: «الحقيقة؛ أنا أتابع في الصحف أعمال هيئة السياحة. وبعض من يشاهد البرامج أو التصريحات يقول: هذه مبالغ فيها، وفيها خيال، وليست ممكنة.. وهذا يذكرني بتجربة هيئة تطوير مدينة الرياض، وكيف أن البعض يرى أن الطموح والخطط المستقبلية لتطوير الرياض من نسج الخيال وليس ممكنًا، والآن نريدهم أن يأتوا ويشاهدوا الواقع، فنحمد الله على ذلك، ونطالب بأكثر وأكثر».
- ماذا يعني إصدار مئات آلاف وملايين التأشيرات السياحية سنويًّا لعشرات البلدان من العالم، وملايين التأشيرات أخرى للمعتمرين والحجاج..؟ وماذا يعني بناء (دار أوبرا) للفنون، وتنظيم عشرات آلاف الفعاليات الثقافية في مختلف مدن المملكة..؟
- الأمر بكل بساطة يعني أنه دقت ساعة العمل يا شباب بلادي. هناك حاجة لمئات آلاف الإداريين والموظفين والمرشدين السياحيين المؤهلين، الذين يحسنون الاستقبال، ويجيدون أصول الضيافة، ويعرفون كيف يقدمون بلادهم للسياح والمعتمرين والحجاج. وإن الفرصة مواتية لمشاركة ومساهمة الناشطين في الفنون الشعبية، والحرفية، والموسيقية، والطربية، من كل المناطق، ولفت أنظار العالم؛ لكسب وجذب المزيد من السياح العالميين؛ بهدف تحقيق مقاربة إنسانية سلمية مع تراثنا وآثارنا ومنجزنا الحضاري عبر العصور.
- جاء الوقت الذي تُهيَّأ فيه المرافق السكنية كافة، ووسائل النقل والضيافة، ويُدرَّب فيه كل عنصر في هذا الميدان السياحي في المناطق كافة. السياحة ليست وظائف إدارية وفنادق وحافلات وطيران فقط، ولكنها صناعة ثقافية بامتياز، وهي فن راقٍ، وحرفة إنسانية، تعكس حضارة وثقافة المجتمع.
- إن وصولنا إلى هذه المرحلة من إدراك قيمة ما نملك من مكنز تاريخي في الآثار والتراث الوطني يؤكد قدرتنا على استغلال الممكن، وقهر المستحيل. قيل: (سأل الممكن المستحيل: أين تقيم..؟ فأجاب: في أحلام العاجز).