د.عبدالله مناع
قبل أربعة وعشرين عاماً.. كانت تجمعني بـ(أخي) و(صديقي) و(زميلي) -فيما بعد- على (صفحات الرأي) - في صحيفتنا (الجزيرة): الأستاذ حمد القاضي.. (ندوة) في إحدى ليالي جنادرية عام 1415هـ.. عن علامة الجزيرة شيخنا الحبيب: (حمد الجاسر).. الأديب والرحالة و(المجمعي) وعاشق الكتب والمكتبات ورائد صحافة الوسطى، الذي أعطاه الأستاذ الدكتور طه حسين صوته ليفوز بـ(عضوية) مجمع اللغة العربية بـ(القاهرة)، والذي كان يسمى صحفياً بـ (مجمع الخالدين).!! بمناسبة اختياره (شخصية) ذلك العام الثقافية.. بعد أن أقرت (مشورة الجنادرية).. استحداث تلك الفعالية الثقافية ليكون في كل عام (شخصية ثقافية)، يحرى الاحتفاء بها وبـ(تاريخها)، والاحتفال بـ(أعمالها الأديبة).. فكان شيخنا (الجاسر).. هو أول من حظي بهذا الشرف الثقافي الكبير الذي كان يستحقه عن جدارة.
كان أخي الأستاذ حمد.. يدير (الندوة) بـ(كفاءته) الثقافية وعذوبته الاجتماعية.. بينما كان يشاركنا فيها كل من الأستاذ الدكتور عبدالمحسن القحطاني -عميد آداب جامعة الملك عبدالعزيز، والأستاذ الدكتور عبدالله العسيلان- عميد كلية اللغة العربية ورئيس نادي المدينة الأدبي، وقد تحدث الأستاذان الدكتوران عن الشيخ حمد الجاسر.. كلٌّ في مجال تخصصه، فأثريا الندوة بحديثهما.. لتأتي فرصتي للتحدث عن (حمد الجاسر) صحفياً.. وقد كنت -وما أزال- معجباً أيما إعجاب بـ(الشيخ حمد الجاسر) وريادته وشجاعته؛ فهو أول من أنشأ صحافة في المنطقة الوسطى قبل أكثر من ستين عاماً.. هي صحيفة (اليمامة) الشهرية فـ(الأسبوعية)، التي أصبحت مع أواخر (الستينات) الميلادية: مؤسسة اليمامة الصحفية التي تصدر الكثير من المطبوعات. وهو أول من أنشأ (مكتبة) لبيع الكتب العربية والقصص والروايات لـ(ثقيف) الناشئة في نجد، وكان أول من أقام (مطبعة) لطباعة ما تحتاجه المنطقة.. فكان هذا التعدد، يعطية موقعاً (تنويرياً) فذاً.. جعلني أسميه بـ(طهطاوي الصحراء).. قياساً على الدور التنويري الذي قام به الشيخ رفاعة الطهطاوي بعد مرافقته لأول بعثة مصرية إلى فرنسا كمرشد ديني لها.. فكان أن تعلم الفرنسية، وعندما عاد إلى مصر كتب كتابه عن رحلته إلى فرنسا: (تخليص الأبريز في تلخيص باريز).
عندما طال حديثي عن (الشيخ حمد) ودوره (التنويري) كان مدير الندوة: أخي الأستاذ حمد -المفتون بـ(الجاسر) وتاريخه- يتحرج من تلك الإطالة.. بين (الرضا) عنها.. و(القلق) من طولها.. فقد أوشك الليل أن ينتصف دون أن تنتهي الندوة، ليجد ضالة اعتراضه في بيتي (المتبني)، اللذين صدح بهما بـ(عذوبة) شعرية لا أحلى ولا أجمل منها:
(مضى الليل والحب الذي لك.. لا يمضي
ونجواك أحلى في العيون.. من الغمض)..
فكانا من فرط متابعتهما لـ(الواقع) وكأنه -هو- قائلهما!!..
***
لتفاجئني قبل أيام قليلة رسالة على (جوالي): تخبرني بوجود (رسالة) لي.. تتطلب من يأتي لاستلامها.. فأرسلت -على الفور- بمندوبي.. الذي عاد وبصحبته رسالة.. بداخلها أحدث كتب أخي الأستاذ حمد القاضي: (مرافئ على ضفاف الكلمة)، وقد صدره.. بـ(إهداء) شخصي مكتوب بـ(الحبر الأخضر)، الذي لم يعد يستخدمه أحد.. غير أديب بـ (أنفاس) شاعر كـ(أخي) الأستاذ حمد القاضي.
كان (الكتاب): (الشفاف) في إخراجه.. وعذوبة ألوانه.. كما يوحي عنوانه: تجميع لحلقات عموده الذي يكتبه أسبوعياً في صحيفتنا هذه (الجزيرة): (مرافئ).. وقد قدم (الكتاب) بـ(خطه الجميل) وكلماته الأجمل صديقه الحميم الأديب والشاعر والفنان الأستاذ الدكتور غازي القصيبي.. قائلاً: عن كاتبه (حمد القاضي لا يغمس قلماً في مداد..
ويكتب على ورقة:
إنه يغمس وردة في محبرة الحب..
ويكتب على شفاف القلوب..!!)
بينما قال صاحب الكتاب
في (مقدمته).. التي جاءت تحت عنوان: (إضاءة.. بين يدي المرافئ).. قال فيها : (هذه الحياة.. ليست أكثر من (مرافئ) تتوقف قوارب حياتنا عندها): مرفأ صبا وفتوة، ومرفأ شباب ونضج، ومرفأ كهولة وتأمل، ومرفأ شيخوخة، وأخيراً (مرفأ النهاية الحتمي).. وأنه قسم (الكتاب).. إلى أربعة (فصول) أو أبواب:
الباب الأول: مرافئ اجتماعية.
الباب الثاني: مرافئ وطنية.
الباب الثالث: مرافئ تأملية.
الباب الرابع: مرافئ ثقافية.
وقد تمنى.. أن يجد قارئه بين مدارات حروف هذا الكتاب: (مرفأ عطاء يفيد منه، وسط نور.. يستضئ به، وصدر حرف يرتاح إليه، وحرفاً غير مجذوذ.. يستظل لحظات تحت خيمته..).
وقد استهل القسم الأول.. بـ(بيتين) من الشعر: أحدهما لشاعرنا الجميل الأستاذ مقبل العيسى.. يقول فيه:
(وفمي تذوق مرها ورحيقها
لا المردام ولم تدم نعماء)
وتانيهما للشاعر العربي السوري (إلياس قنصل) يقول فيه:
(وكن بلبلاً تحلو الحياة بشدوه
ولا تك مثل البوم ينعق بالردى)
***
ولكن.. ولأن (المرافئ) كثيرة.. فقد اخترت أن أتحدث بصورة عابرة ومختصرة عن (مجموعتين) منها.. وهما: (المرافئ الاجتماعية)، و(المرافئ الثقافية).. وقد لفت انتباهي في المرافئ الاجتماعية.. ذلك (المرفأ) الساخر الذي يتحدث فيه الكاتب عن (حوار مع كرسي)..؟! وهو كرسي يشغله إما (وزير) أو (وكيل للوزارة) أو بالأقل رئيس لـ(مجلس إدارة)، حيث يقول: (قضى أول يوم له على صهوته: فرحاً، تكاد الدنيا لا تتسع لتغريد طيور الفرح في صدره، وموظقو المؤسسة من حوله يباركون له.. ورنين الهاتف لا ينقطع من مبارك.. إلى مهنئ.. إلى داع لوليمة)، وفي اليوم التالي كان على (كرسيه) صباحاً بعد أن انفض سامر المهنئين والمتصلين.. حيث التفت إلى (الكرسي) وسأله: كم من مدير جلس عليه وغادره..؟ وكم من عمل طيب شهده هذا الكرسي؟ وكم من دعاء استمع إليه)؟.. و(في المقابل كم من دعوة قاسية سمعها تلقى على مسامع من يجلس عليه؟، وكم من خبر منعه وشر نشره؟..
و(أمام جبل الأسئلة.. التفت إلى نفسه وسألها سؤالاً واحداً.
(هل سوف استمر على هذا الكرسي؟
(وكان الجواب بالطبع لا!!.. فلو دام الكرسي هذا لسابقك.. ما انتهى إليك.
(هكذا طرح السؤال!! الحاد على نفسه)..!..
(وعنده بدأ يمارس عمله.. وبدأت إجابته الحقة عن هذا السؤال الإجباري)!!.
أما (المرافئ الثقافية).. فقد امتلأت بأحاديث جميلة عن الشعر والشعراء.. ونماذج منقاة من أعمالهم.. عن (شاعر الحرمان): إبراهيم ناجي وديوانه (الطائر الحريح).. وعن (رامي) وحزنه وعشقه.. وعن أحمد صالح (مسافر) وقصيدته (حيرة الهوى)، وعن (حمزة شحاته) وقصيدته وديوانه (شجون لا تنتهي)، والذي قال عنه في ختام (مرفأه): (إن القارئ لشعر «حمزة شحاته» يجد فيه رقة الشريف الرضى، وغربة أبو فراس وفلسفلة المعري)!؟ فـ(الشعر) في هذه (المرافئ) يتسيد على كل ما عداه.. لأن أخي حمد لولم يكن كاتباً مجيداً.. لكان شاعراً في المقدمة!!.
على أيّ حال.. لم ينس في مرافئه الثقافية.. مرفأ ليلتنا الطويلة عن (الشيخ حمد الجاسر).. والتي جاءت تحت عنوان: (إن من البيان لسحرا)..؟.
وتبقى كلمة، فلم أكن من أنصار جمع مانشر في الصحافة.. وإعادة طباعته في كتاب، لكن (مرافئ على ضفاف الكلمة).. بجمال إخراجه وعذوبة وشفافية ألوانه.. أعطى نفسه استثناءً يستحقه..!!.