عبدالعزيز السماري
هناك من يرى أن اللغة مرآة العقل، فهي إما أن تكون وجهاً للحضارة أو صورة ذميمة للتخلّف عن الركب، وقد تعلّمنا من التاريخ أن الحروف قد تكون سكاكين في خطابها العام، وبالتالي تتحول مفرداتها إلى مصدر للعنف والتطرف والجهل، وقد تكون نبراساً يهتدي به الباحثون عن العلم والحقيقة في الحياة، وقد كانت اللغة العربية في القرون الوسطى لغة العلم والعقل، وكان الإنسان يفكر من خلالها..
لكن انحسار العلم وتراجع الحضارة والفلسفة في الثقافة العربية أفقدها ذلك البريق الذي يجذب إليها الباحثين عن العلم من مختلف العالم، فتحولت مع تقدم درجات الجمود إلى أثر ومعان قديمة، وفقدت تماماً جاذبيتها، وأصبحت حروفها ومفرداتها أدوات تُستخدم في الجهل والعنف والتطرف والذم والمدح الزائف.
يعاني العقل العربي من جمود اللغة وعدم مواكبتها للتطور العلمي في مختلف المجالات، وكان الحل البديل لا يؤدي إلى العقل تماماً، ولكن يقسمه إلى شطرين، أحدهما يتماهى مع العالم الجديد، ويحاول أن يتكيّف مع الحقائق العلمية الثابتة، وقد تختلف درجة التكيّف من شخص إلى آخر حسب إتقان اللغة الأجنبية، والشطر الآخر ما زال يعيش في الماضي ويتماهي مع حروفه وكلماته وأفكاره في معانيها التراثية.
ليس الخلل في لغة الضاد، ولكن في تخلف الناطقين بها وإخفاقهم في إحيائها وإعادتها إلى الساحة العلمية والثقافية، ومن خلال إصلاحها تبدأ أولى خطوات إصلاح العقل وعدم تناقضه مع الواقع، والسؤال الذي يكشف حجم المرض العربي هو لماذا فشلت الأمة التي تتحدث العربية ويتجاوز الناطقون بها الثلاثمائة مليون نسمة في إعادة الحياة إلى لغتهم التاريخية؟ بينما نجحت دويلات صغيرة في إحياء لغات مندثرة، ولم يكن لها تاريخ في تدوين العلوم من خلال مفرداتها!
بينما فشلنا في إعادة اللغة العربية، التي كانت يوماً ما حاضنة العلوم والإنجازات، إلى أن تكون منهجاً للتفكير العقلاني من خلال التفكير العلمي المنهجي، ولعل هذا الفشل يعبر عن ماهية الصراع الحالي في معظم بلاد العرب، فبيئة الصراخ واتساع مساحات الاقتتال مصدرها العقل وأدواتها حروف اللغة، ومنتجاتها التشرذم وضياع الثروات والاستبداد .
كان الحل الإصلاحي للغة سر ازدهار دول أقل ثروات وأصعب لغة مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية وفنلندا والسويد وغيرهم، فقد بدأ التعليم بإصلاح العقل من خلال إصلاح اللغة الأم، ولهذا توجد في تلك البلدان مراكز ترجمة فورية لمختلف المنشورات العلمية التي تصدر في العالم، ولمختلف أمهات الكتب في مختلف العلوم الحديثة، وكانت النتيجة أن العلم أصبح متاحاً للجميع، وكانت النتيجة مع الإصلاح الاقتصادي ازدهار غير مسبوق.
تبدو الصورة في غاية التناقض في الواقع، فالعربي على سبيل المثال يظهر في الإعلام وهو يتحدث لغة إنجليزية وبلكنة أمريكية خالصة، قد تصل عند البعض إلى درجة التماثل المدهش، بينما يتحدث الياباني عند الاضطرار بلغة إنجليزية ركيكة جداً، ولكن عندما نقيم تجربة اليابان كحضارة ومنجزات ثم نلتفت إلى الخراب في الواقع العربي ندرك أن الخلل هو ذلك الاعتقاد الخاطئ الأشهر، وهو أن تدريس السكان لغة ثانية من أجل تداول العلم لا يؤدي إلى نتائج صحيحة.
ولكن قد يؤدي إلى انفصام في العقل وخليط عجيب بين لغة مشبعة بأفكار من الماضي وكلمات مجتزأة من سياقها من العالم الجديد، ولعل ذلك يفسر ذلك التناقض في حياتنا في مختلف الاتجاهات، فالماضي يحكم الحاضر، ولكن بلغة أجنبية ركيكة، والعلم عجز تماماً عن تفكيك تلك الطلاسم التي نحاول ترويجها من خلال أدوات غير مكتملة من العالم الجديد.
المقال أعلاه أثاره بلا حدود خبراً تم تداوله في بعض وسائل الإعلام الاجتماعي عن إعجاز علمي محلي مصداقاً لحديث «إذا رأيتم النار فكبروا فإنه يطفئ النار»، وذلك عندما ادّعى أحد طلبة العلم أنه حصد براءة اختراع بقسم هندسة المباني بكلية العمارة في إحدى الجامعات المحلية، وهو إطفاء النار بالموجات الصوتية البشرية بقول «الله أكبر»، حيث تصدر منه موجات تطفئ النار عند تردد 125 هرتز.
هذا الخبر يكشف حجم مرض العقل العربي وعدم قدرته على فهم العقل العلمي التجريبي الحديث، ودليل على اختلال مزدوج في إدراك منتجات العلم الحديث، والسبب هو تأخر اللغة الأم عن التطور من خلال استيعاب المتغيّرات العلمية الجديدة، وكانت النتيجة هذا الإعلان الغريب عن براءة اختراع لا يمكن أن تخضع لمعايير التجربة العلمية، ومن جامعة علمية محلية..