النجاح الباهر والتميز الكبير الذي حققه معالي الشيخ راشد بن خنين -رحمه الله-، انعكس بشكل إيجابي كبير على بلدته الدلم التي بادلها حباً وشغفاً غير مستغرب على من هذه صفاته، ظهر ذلك في تواصله المستمر مع أهلها الذين كانوا يفخرون به في محافلهم، ويشيرون له بالبنان، ويرددون اسمه في مجالسهم؛ وكان مضرب مثل لهم على كيفية بناء الذات والوصول إلى المجد. كما خص مدينته الحالمة بجزء من شاعريته الرصينة والمؤثرة نتيجة صدق مشاعره، وملامسة إحساسه المرهف لوجدان المتلقي؛ وأوقف في مرحلة من مراحل عمره العامر بالعلم والعمل جامعاً يعد من أبرز معالم الدلم؛ ليبقى مسقط رأسه موئلاً لمصدر علاقة تستمر معه حتى بعد وفاته.
كان لوالدي- رحمه الله- علاقة وطيدة بمعالي الشيخ راشد، إذ تبوأ في نفسه مكانة خاصة للشيخ الذي بادله المشاعر نفسها، فقد تحابا في الله واستمرا عليه إلى أن غادرا هذه الدنيا، وورثا هذه المحبة لأبنائهم؛ لتبقى صلة عائلية يفخرون بها ويلتقون عليها.
سمعت من والدي الكثير من الثناء على خلقه وعلمه والإشادة المستحقة للشيخ بما وصل إليه من مكانة، وحدث في غير مرة أن التقيت بالشيخ سواء عندما يقوم بزيارته تقديراً لمكانته، ولكبر سنه مقارنة به. وكان الوالد يحرص على أن أرافقه لقناعته أن مجلساً كمجلس الشيخ يمثل تجربة ثرية لشاب في مقتبل العمر للتعلم منها، وأدرك جيداً بشخصيته التربوية الفريدة أن ارتيادي لذلك المكان مصدرٌ مهم من مصادر التعلم وخطوة لابد منها للفت الانتباه للأخيار والقدوات، وهو محق في ذلك. فلقد كنت أنصت بعمق، وربما بلهفة للحوار الذي يدور بينهما، وبالفعل كنت أشعر بوجودي بين معلمين قديرين أحدهما أبي والآخر شيخ جليل.
أُعجبت كثيراً بشخصية الشيخ راشد التي كانت تملأ المكان وقاراً، وكان يأسرني أسلوبه وقدرته على انتقاء عباراته أثناء الحديث بمهارة فائقة؛ ليُعطي كل مفردة ينبسها القيمة الحقيقية لمعناها، يعني تماماً ما يقول، ولا يطلق كلماته جزافاً. ولعل هذا ما يكشف سر هدوئه الشديد في الحديث، على نحوٍ يبعث على تركيز المستمع. ولأنه يعرف تاريخ والدي منذ طفولته التي فقد فيها والدته وهو ابن ثلاث سنوات، وأنه تربى وحيداً واستطاع أن يبرز بين أقرانه ويكون ذاته بذاته، فقد وصفه بمفردة «العصامي» التي كان يرددها كثيراً، وأبدى إعجاباً بمنطقه إلى درجة أصبح معها يثق في مشورته إذا اقتضت الحاجة. ولا شك بأن ذلك يمثل جزءا من عبقرية الشيخ الذي يتلمس نقاط القوة الحقيقية لدى الآخرين ليدعمهم بها، فيساندهم بما يسهم في تقدمهم ونجاحهم، كيف لا، وهم الذين تعني لهم شهادته سلماً قيماً للوصول إلى المزيد من التفوق والنجاح.
من أصدق اللحظات التي أدركت فيها محبة الشيخ- رحمه الله- الشديدة لأبي- رحمهما الله- حينما جاء في يوم الأحد 1426/4/6هـ الموافق لـ2005/5/15م رغم عجزه، يدفعه أحد أبنائه على عربة لمجلس عزاء أبي، وشاهدت حينها الدمع ينهمر على وجنتيه في مشهد لا يزال عالقاً في ذهني وسيبقى.- رحم الله- الشيخ راشد بن خنين، و-رحم الله- والدي وجميع موتانا وجمعنا بهم في مستقر رحمته.
** **
د. محمد بن عبد العزيز الحيزان - عضو مجلس الشورى