عبدالوهاب الفايز
في الحلقات السابقة كان الحديث حول دور صندوق النقد الدولي في إدارة الاقتصاد العالمي، ففِي تاريخه الطويل منذ إنشائه في الأربعينيات من القرن الماضي ظل الصندوق محور النظام المركزي لإدارة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ونجح في نشر الليبرالية الاقتصادية الحديثة التي انطلقت من مدرسة شيكاجو بقيادة الاقتصادي ملتون فريدمان، التي تتبنى (عقيدة أو مبدأ الصدمة) للوضع القائم للتمهيد للتغيير الاقتصادي.
هذا المبدأ بقي مرتكز النمو الاقتصادي العالمي في العقود الثلاثة الماضية حيث تبناه النظام الدولي الجديد عبر (عولمة الاقتصاد)، والمتحفظون عليه يَرَوْن أنه سوف يؤدي بالضرورة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي الذي ينشأ بين الناس والحكومة، فالحكومة هي المسؤولة عن إدارة مصالح الناس واحتياجاتهم الأساسية التي تضمن حقوقهم الإنسانية الأساسية، وتضمن عدالة توزيع الثروة الوطنية وتحقيق فرص المساواة بين الناس.. أي كل ما يؤدي إلى مقومات السلام الاجتماعي.
المآخذ على الصندوق وسياسته الاقتصادية الليبرالية الجديدة المتطرفة أنها تقوم على نقض هذا العقد الاجتماعي عبر الإخلال بمبادئه الأساسية، بحيث تتخلى الحكومة عن دورها لإدارة الخدمات الأساسية، بالذات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والنقل والإسكان وتحويلها إلى القطاع الخاص. هذا التحول إذا أخذنا بنظرية الطبيعة البشرية سوف يطلق (غريزة الشركة) ويقوض (روح الدولة). هذا الإخلال بالعقد رأينا كيف أدى إلى انهيار دول ومجتمعات، وأدى لتعاظم مؤشرات الفقر في العالم حيث تراكمت الثروات بأيدي القلة في العديد من الدول.. وأولها أمريكا!
الذي نتطلع إليه هو استثمار العلاقة التي تملكها بلادنا مع المنظمات الدولية ومع مؤسسات التمويل العالمية، مع استثمار تجربتنا الناجحة مع البنك الإسلامي للتنمية، ومع الصندوق السعودي للتنمية لأجل إنشاء (البنك العربي للإنشاء والتعمير).
نحن في بيئة إقليمية محطمة، فالمشروع الإيراني الصهيوني في المنطقة أدى إلى الوضع المزري الذي وصلنا إليه، فهناك دول أنهكتها الحروب مثل العراق، وأخرى استنزفت ودمرت مثل سوريا، واليمن يتحطم كل يوم، وهناك دول منهكة اقتصادياً، ورخوة سياسياً. هذا المحيط سوف يأتي اليوم الذي يحتاج التعمير.
وأول مشاريع البحث عن الإعمار في المنطقة شهدناه قبل أسبوعين في الكويت، حيث اجتمعت الوفود لبحث المساهمة في دعم العراق لبناء ما دمرته الحروب، والعراق لم يجد معه في المشروع سوى أشقائه في الخليج، بينما إيران تنصلت ومارست حالة الكذب عندما ادعت أنها تدعم العراق كل يوم، بالرغم من أنها ظلت لسنوات تستنزف ثرواته وتحصل على خمس ثروات المرجعيات التابعة لها، وسعت في تدميره واللعب في مكونه الوطني.
قيام مؤسسة مالية عربية ضروري لدول الخليج لأننا سنكون المقصد الأول للمساهمة في إعادة تعمير الدول المحطمة، وسوف تحاصرنا المطالب للمساهمة في إعادة الإعمار كما حاصرتنا المطالب لاستيعاب اللاجئين، وأيضاً سوف نجد من يطالبنا بلعب دور قيادي في مشاريع التمويل المالية في المنطقة. المبادرة السريعة لإنشاء البنك لها تطبيقاتها السياسية التي تمس الأمن القومي العربي الذي نحن محوره، ولها أيضاً آثارها الإنسانية والاجتماعية، ولها تطبيقاتها الاقتصادية.
فيما يخص الأمن القومي.. من مصلحتنا قيام دول مجاورة مستقرة، ومن مصلحتنا قطع الطريق على إسرائيل التي خططت منذ زمن بعيد لتكون محور التنمية الاقتصادية في المنطقة، كإحدى الوسائل لضمان أمنها القومي، أي أنها تتطلع إلى قيام منظومة مصالح جديدة مترابطة تكون هي محورها حتى تطمئن الشعوب المحيطة بها وتدخل معها في مشروع السلام الدائم القائم على التطبيع الشامل، والآن الفرصة ميسرة لها إذا لم نأخذ زمام المبادرة.
فيما يخص الأبعاد الإنسانية والاجتماعية، المؤسسات المالية الدولية الخاصة، أو الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي سوف تفرض شروطاً قاسية مقابل التمويل، وبالتالي التدخل في سيادة الدول، وكما فعلت سابقاً مع عديد من الدول المنهارة مالياً سوف تبني الاقتصاد ليخدم مشروع الليبرالية الاقتصادية المتوحشة، وتصوغ مستقبل الدول بما يتفق مع مصالح كبار الممولين ومشروعهم للهيمنة على المنطقة.
في الجانب الاقتصادي.. مشروع البناء في المنطقة سوف يتحقق بالرؤية والأهداف التي تخدم مصالحنا. هذه الآلية اتخذتها الدول الكبرى سابقاً، وتتخذها الآن الدول المحورية في الجغرافيا السياسية المعاصرة. مثلاً، الصين تبنت عام 2015م إنشاء (بنك الاستثمار في البنية التحتية)، ليكون محور التمويل لمشاريع البنية الأساسية في الدول القريبة من الصين، ويهدف إلى تهيئة الظروف لمشروع طريق الحرير بالرؤية التي تتوخاها الصين. (رغم المعارضة الأمريكية لهذا البنك فقد انضم إليه أحد حلفائها.. بريطانيا!). الصين تحركت بهذا الاتجاه الذكي لكي تكون محور التنمية في منطقتها عبر توفير التمويل بدون شروط قاسية، وهذا يخالف توجه صندوق النقد الدولي.
هل نبادر إلى تبني هذا المشروع الذي يخدم مصالحنا العليا؟