محمد المهنا أبا الخيل
منذ أزل التاريخ وجزيرة العرب والتي تمثل المملكة العربية السعودية (80%) من إجمالي مساحتها لم تزل مصدر التغيير في محيطها الجغرافي، فكل الحضارات التي قامت في حوض الرافدين أو تلك التي ازدهرت في الهلال الخصيب أو حول دلتا النيل أو في أعالي جبال الحبشة، كان مصدر الإلهام والتغذية الفكرية قادم من جزيرة العرب من خلال القبائل التي هجرتها واستقرت هناك، وكان العرب في كل بلادهم شمالها وجنوبها ينظرون لحكمة وفن وإبداع شعراء الجزيرة وحكمائها والتي يزجون بها معلقاتهم الشعرية، وفي ذات يوم بزغ من تلك الجزيرة نور أضاء العالم كله وجعل العرب سادة حيثما حلوا، ولكن لهذه الجزيرة سرا غريبا فهي بقدر ما تضيء للعالم عقيدة وأدبا وعلما وفنا، تختزن قدرا هائلا من التناقض الفكري والجمود الذهني ، وكأن هذا التناقض هو القوة الطاردة لذلك التغيير الذي يصيب العالم المحيط فيشعل حضاراته، اليوم نحن بحاجة لأن نجعل التغيير الدافع للحضارة في كبد الجزيرة والتغيير الذي نطمح له هو ذلك الذي يشعل حضارتنا في بيتنا.
قرون مضت بعد هجرة الخلافة من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمال العربي ومنذ تلك الهجرة وأهل الجزيرة في نزوح مستمر نحو الشمال في ظاهرة تفريغ لوسط الجزيرة خصوصاً من مظاهر الحضارة، فبقيت مرتع البداوة وحضن الجهل المعرفي لقرون، وساهم في مزيد من تفريغها الثقافي عزلتها خلال حكم الدولة العثمانية وإهمال ضبطها الأمني ودعمها المعيشي، الأمر الذي رسخ فيها مفاهيم فكرية وسلوكيات اجتماعية قامت على السلب والنهب والعدوان بين مكوناتها القبلية والاجتماعية، فتأصلت عادات ومعتقدات اجتماعية لا تشجع على التلاحم والتعاون بقدر ما تشجع على التناحر والصراع على موارد الحياة القبيلية، لذا كانت الحياة في وسط الجزيرة سلسلة من الغزوات والغارات المتبادلة بين قبائلها، وبعد حين أراد الله لهذه الأمة أن تنهض من جديد وتنظم لركب الحضارة البشرية، فتأسست الدولة السعودية وسارت قياداتها في مسار التغيير الهادف لبناء فكر سعودي جديد قادر على التعايش والتنافس مع الشعوب الأخرى في ميدان المدنية والحضارة الإنسانية الشاملة.
يتميز المجتمع السعودي بتنوع عرقي ومذهبي في وحدة لغوية وانتماء لمجد تراكم منذ أزل التاريخ، هذا التنوع و الوحدة يمثل الملاط الذي يشد بناء الشعب السعودي في كيان واحد صلب وشامخ، ولكي يكون هذا الملاط في أشد قوة له علينا هندسته بطريقة تزيل ما يشوبه مما يضعفه أو يقلل من قدرته على احتمال التحديات، وأهم هذه الشوائب هي تلك الأنماط الفكرية والعادات والسلوكيات التي ورثناها من قرون التفريغ والعزلة، هذه الشوائب لازالت تختمر في الذهنية السعودية فتارة تبرز في صورة عصبية قبلية وتارة في صورة عنصرية بغيضة وتارة في صورة عداء للمختلف وتارة في صورة إحجام عن التفاعل وهجرة عقلية وخوف من فقدان الهوية، وتارة في صورة تبلد واستدعاء لأمجاد التاريخ الغابر، ويصاحب ظهور أي من تلك الصور نشاط اجتماعي مبرر وداعم في صورة حماية لتلك الصور من التغيير، ولا شك أن أي من تلك التمظهرات الاجتماعية السلبية هو مكلف اقتصادياً ومعيق حضارياً ومفتر للتنمية ومقلق للمجتمع والسلطة.
المملكة اليوم وهي أمام مشروع حضاري تنموي هائل من حيث الطموح والتكلفة والاستعداد بحاجة لإصلاح المحصلة الذهنية والتي تقود المجتمع إلى التلاحم والإنتاج والنمو المتوازي في ثقافته وسلوكه وإنجازاته، هذا الإصلاح لابد أن يؤسس على قاعدة فكرية تقوم على مكارم الأخلاق التي أتى بها الإسلام، والتي تضمن حياة كريمة وآمنة لكل مكونات وأفراد المجتمع، هذا الأصلاح ليس بسن قوانين وقيود، بل هو بتمكين الفرد السعودي من القدرة على التفكير الحر واكتساب مفاهيم عصرية تجعله أقدر على الانعتاق من قيود القبلية والفئوية والتحرر من الأنماط الذهنية التي تخل بسلوكه كفرد منتج وعادل في المجتمع، نحن اليوم بحاجة لبرنامج وطني لا يقل الاهتمام به عن الاهتمام بتطوير قواعد الإصلاح الاقتصادي، فالإصلاح الاجتماعي هو متطلب أساسي للإصلاح الاقتصادي والتنمية الوطنية.
إن وضع خطة إصلاح اجتماعي تحتاج قدر كبيراً من الاهتمام والإعداد والدراسات الديموغرافية والحضارية، ومركز الحوار الوطني في نسخته الجديدة، يجب أن يكون هو محور ذلك، وعليه أن يغير من أسلوبه الذي بدأ به، فالواجب أن ينتقل من صيغة الاجتماعات الجدلية إلى صيغة مركز التغيير الاجتماعي، حيث يولي عملية الرصد الاجتماعي أهمية كبرى ويرفع للقيادة تقارير دورية عن التمظهرات الاجتماعية المؤثرة في مسيرة التنمية ويكوّن تجمعات فكرية (think tanks) في صورة أفقية تهتم بالتغيير الاجتماعي الإيجاب في المناطق، وأخرى في صورة رأسية تتمثل في التغيير الفكري الجمعي تجاه مفاهيم الوطنية والعدل والوحدة والتعايش والحقوق المدنية، هذه المراكز الفكرية تكون نتاجا فكريا يتم من خلال مركز الحوار الوطني تجنيسه وتنسيقه ليخرج منتجات يغذى بها النظام التعليمي وتدمج بالحركة الثقافية والفكرية والإعلامية في صورة متوازية لإحداث نقلة في المفاهيم الاجتماعية تقود للنمو الحضاري والذي سيؤهل المملكة لتكون أحد رواد الحضارة الإنسانية وتعيد مجداً كاد أن يندثر.