د. خيرية السقاف
للكتاب علاقة بمن يقتنيه، يتلون الإحساس بها بألوان مشاعره, وتتجذر بعمق الرابطة بينهما, ثم هي علاقة تختلف باختلاف مضمون الكتاب, موضوعه ومجاله, والاحتياج إليه, فكتب الدراسة, وموضوعاتها, والاختصاص المعرفي, وارتباطاته, تختلف عمن يقتني كتب الإبداع بفنونه الأدبية, والفكرية ذات الوشائج الوجدانية, والتأملية التي تتفاعل, وتتعامل, وتتقاطع, وتتناص تعابيرها مع مكنون المتواشج معها..
كثيرا ما ربَّت الكتابات الأدبية إحساس الإنسان, بمثل ما بلورت أفكاره, وعمَّقت خبراته, وصقلت ملكاته عيون آدابها, وتجارب أفكار رواتها, ومواهب مصنفيها, وقدرات كتابها, فالكتاب نهر يرفد, وبحر يمد, وشاطئ يوصل, وقارب يحمل, وجناح يحلق, وصديق حين يطرق الباب يأخذ بالألباب, يعتقل الوقت, والحس, والعناية, والفكر.. لذا له رهبة, وصولجان, ومهابة, ووقار , لا يقتحمه عابث, ولا تاجر في عُرف من يعي..
الكتاب حين يلج مكان محبِّه يأسر فلا ينفك من أسره الشغوف إلا متى الْتَهمَ آخر ما فيه, ونفض يديه عن آخر لمسِه غلافيه..
في حضرته كل انتباهه تدنو, وأي مروق يشطر..
تعودنا منذ طفولة القراءة عشق ملمس ورقه, والشغف برائحة أحباره, وتلك الرسومات والتعرجات في حروفه, وكلماته, والترحل مع مضامينه, والتعايش مع موضوعاته, ومصادقة رموزه, وحكاياته..
حلمنا مع قصصه, وعشنا مع أبطالها, وحدونا مع ألحان أشعاره, وبكينا مع بؤسائه, وضحكنا مع فكاهاته, وخجلنا من إباحاته, ورقينا مع فلسفته, ورحلنا مع حُقبه, ورسونا في شواطئه, وتغربنا مع ملاحمه, وأحزانه, وأشجانه, وعرفنا معه المدن, والبشر, والطرق الموحشة, والغابات المذهلة, التناقض والتوافق, الغربة والألفة, الوحشة والاطمئنان, القلق والرهبة ..و..و..وتلك الآماد المستحيلة, والأبعاد الطويلة..
لهاثه الدؤوب كان ولا يزال يحرضنا على اقتنائه, مهما تغيرت أوعيته, ومهما تلونت وسائله..
كذا مهما ازدحمت منصاته يبقى الكتاب ضمن غربال مداركنا الصديق الذي إن غاب استدعيناه, فإذا ولج احتفينا به, وأكرمناه..
جاء هذا التداعي حين ولجت داري بعد رحلة عشرة أيام, وجدته يضيء المكان, انفض إشعاعه عن صندوقين كبيرين يحملان لي منه جملة مهمة هي منشورات نادي الباحة الأدبي, تفضل مشكورا بإهدائها لي الشاعر المبدع الأخ حسن الزهراني رئيس النادي, وكنت منذ زمن انشغال الناس بإيقاع الراهن قد افتقدت هذه العادة الجميلة التي كانت توطد التواشج بين الأدباء, والمفكرين, وأصحاب الحس الشفيف, وذوي التناظر في الاهتمام المعرفي, والفكري, والأدبي حين حبال الترابط بينهم هي الكتب, الكتب الناطقة, الهامسة, المفضية بسر الرؤى البشرية..
مهما اختلطت الآن في مضماره المضامين, وكلحت الأحبار, وعجت الغوغاء!..
إن فرحتي بهذا الزخم الإبداعي كبيرة, وإن امتناني به جزيل, وإن شكري عنه لا يفي..
كل الذي يمكنني قوله, إن نادي الباحة يصنع للكتاب, ولمبدع ما فيه كما يفعل غيث تهامة, وخضرة مرتفعاتها, وبذخ جمالها, ومفعم غيومها, وأوديتها, وأزهارها..
فشكرا لك أخي حسن أيها المبدع الشفيف, ذو الذوق اللطيف, أن جعلتني أستلهم الذي طاف بي عن الكتاب.