حمّاد السالمي
* إنّ من يتابع الخطاب السياسي القطري بعد (المقاطعة)؛ ويشاهد لطمياته وبكائياته على شاشاته وفضائياته؛ سوف يتذكر تلك المحاكم العُرفية القبلية؛ التي كانت سائدة في ديارنا، وبين كثير من قبائل الجزيرة العربية، ومنها القبائل العربية في قطر ذاتها؛ إلى عهد قريب.
* يأبى نظام الحمدين في الدوحة؛ إلا أن يتظاهر أمام العالم بالمظلومية، ويصور المقاطعة العربية ضد صبينته ومراهقاته السياسية؛ على أنها حصار ضده، لا مقاطعة تأديبية ضد ابن ضال من عائلة كبيرة، ولا محاسبة مستحقة على ما اقترفه ويقترفه من دعم للإرهاب والإرهابيين، وعلى ما يمارسه من تهديد خطير لأمن جواره العربي والإقليمي والدولي كذلك.
* كان العرب منذ زمنهم القديم؛ يملكون من أدوات الردع والتحكيم الشيء الكثير، الذي ربما نسيه الحمدان وتميمهما في قطر، بعد أن (تفرّسوا) ورأوا الشرف في إيران المجوسية. ومن باب الشيء بالشيء يُذكر؛ فإن الطريقة التي أحكمت بها المقاطعة السياسية والاقتصادية والثقافية على دولة الحمدين، هي من صلب ثقافة المجتمعات في الجزيرة العربية والخليج، وكان الناس يلجؤون إليها قبل عقود عدة، عندما كانوا (كافين خيرهم شرهم) كما يُقال في الأمثال، بعيدًا عن السلطات المركزية. وقد شهدنا في صغرنا محاكم عُرفية في قرانا وبوادينا، تُحكم القبضة على كل فرد ودار في القرية والقبيلة، بموجب نظام (التقطيع)، الذي يعني المقاطعة.
* يروي أحدهم ما علق في ذاكرته من تلك المقاطعات التي عاشها قال: كان أحد سكان قريتنا واسمه (بُسيس)؛ ذا مال كثير وبنين وبنات. كانت له آبار ومزارع وأغنام وأبقار وخير وفير. وكان له خمسة أولاد ذكور بين كبير وصغير، وثلاث بنات كذلك وزوجة. وكان على كِبر وغطرسة، ويغض الطرف عن عبث أولاده وإيذائهم لجيرانهم في مزارعهم وفي حلالهم، وقد يصل الأمر إلى التطاول على الأنفس بالسب والشتم والضرب. بذل الجيران كل وسيلة لإفهام جارهم وابن عمهم، في محاولة لتبصيره بما يُقترف من قبله وقبل أولاده ضدهم دون جدوى. ظل على غطرسته وحتى سخريته منهم كلما أكثروا من الشكوى. جمعوا له كبار القوم لينصحوه ويردعوه، لكنه غير مبال بهم، يقول شيئًا ويفعل شيئًا آخر. ويزداد عنتًا كلما ازدادوا تضجرًا منه ومن جواره المؤذي. لم يبق إلا العلاج بالكي. علاج المحكمة العُرفية التي يحضرها شيخ القبيلة وكبار القوم بحضوره طبعًا.
* انعقدت المحكمة وسط حضور نوعي من العقلاء كالعادة، وعرض الخصوم دعواهم ضد القريب والجار المؤذي وهو يستمع. لم يستطع الدفاع، ولم يبد أي نية للتعاون وتقدير القرابة والجيرة ومصلحة القبيلة والقرية كافة. عندها صدر الحكم عليه بـ (التقطيع). وهذا يعني أن على جميع الجيران مقاطعة قريبهم وجارهم هذا بحيث: لا يؤاكلونه، ولا يشاربونه، ولا يدخلون داره، ولا هو يدخل دورهم. لا يقرونه السلام، ولا يسايرونه في فرح أو ترح. وعلى هذا الرجل وأهله؛ أن يعيشوا منبوذين بين أهلهم وقرابتهم. غرباء في قرية ضاجة بالحياة والحركة.
* انتهى الاجتماع؛ بعد أن تحالف القوم وتحافلوا على ما صدر من حكم. عاد (بُسيس) إلى داره كما دخل أو مرة في كِبر وتعال. مرت أيام وأيام وأشهر، ويشاء القدر؛ أن تسقط إحدى بقراته في البئر. صاح هو وصاح أهله دون أن يجد أي نجدة من أحد. ذهبت البقرة الذي عجز عن إنقاذها، وجاء بعد ذلك يوم مطير وسيل عرمرم، وكاد السيل أن يجرف أحد أبنائه؛ لولا أن تعلق بجذع شجرة في طرف الوادي حتى وقت متأخر من الليل، وكان هو وزوجته وأبناؤه يصيحون ويبكون في الضفة الأخرى من الوادي دون تدخل من أحد.
* أخيرًا.. عرف الجبّار (بُسيس) أن الله حق، وأنه لا يستطيع أن يعيش وحده، وعاد إليه رشده، وطلب عقد جلسة لعقلاء القوم الذين أصدروا حكم (التقطيع) ضده، وأبدى أمامهم ندمه وأسفه وعودته عن كل ما بدر منه في الأيام الخوالي، وتعهد أمام الكل؛ بتنفيذ طلبات المحكمة العُرفية، من ردع أبنائه، ووقف أذاهم وسفههم، وأن يحترم قرابته وجواره، ويتعاون مع الكل على ما يوفر الاستقرار والحياة الكريمة العادلة للجميع.
* من لم يعرف بمثل هذه المحاكم أو لم يشهدها؛ عليه بسؤال الآباء والأجداد الذين سبقوا وعاشوا هذه الثقافة العادلة في زمن ليس ببعيد.
* أسوق هذا النموذج؛ لأني أعرف أن أهلنا في قطر يعرفون جيدًا تفاصيل كهذه وأكثر، ويعرفون أن المقاطعة العربية ما جاءت من فراغ، وأنها ليست كما يصورها حكم الحمدين في الدوحة، فهي لا تستهدف أهل قطر، وإنما تهدف إلى إصلاح حُكم قطر، لمصلحة قطر والقطريين.
* من يشذ عن محيطه؛ ويتنكر للحمته، ويتآمر على قرابته، ويطعن أهله في ظهورهم؛ فمصيره هو مصير (بُسيس) القروي المنبوذ. هذا إن بقي لـ (بُسيس) الوريث؛ بعض من عقل، وشيء من ذيل..!