د.عبدالله مناع
أخيراً.. جاءت اللفتة المتوقعة.. ومعها (الفرج).. بالرغم من انشغالات الوطن بما هو أهم، وصدرت موافقة خادم الحرمين الشريفين: الملك سلمان بن عبدالعزيز - يوم السبت ما قبل الماضي - على: (تشكيل فريق عمل.. لدراسة تكاليف المحافظة على جدة التاريخية)؟ على أن يقدم فريق العمل - هذا - توصياته بعد ثلاثين يوماً من تعيين أعضائه..؟!
فكان لهذه «اللفتة» المسؤولة والواعية.. رنة فرح، لم تقف عند حدود (جدة) وأهلها وسكانها ومن اختاروا العيش فيها من أبناء الوطن ولكنها امتدت إلى كل أرجاء وطننا الكبير: طمأنينة وسعادة.. خاصة أنها لم تتأخر عن مولدها، فقد جاءت بعد ثلاثة أعوام من منحة الملك عبدالله بن عبدالعزيز - طيب الله ثراه - .. التي قدمها لـ (ترميم) مساجد جدة التاريخية: (عمر) و(عثمان) و(الشافعي) و(المعمار) و(الحنفي)، وبعد أربعة أعوام - تقريباً- من صدور قرار (اليونيسكو) بضم جدة التاريخية.. إلى (قائمة التراث المعماري الإنساني والعالمي)، الذي يتوجب الحفاظ عليه، والذي صدر في الواحد والعشرين من شهر يونيه من عام 2014م.. وأحدث عند صدوره انقلاباً بين (العامة) قبل (الخاصة)، وجعل الكثيرين يحرصون على العودة إليها، ليرمم القادرون منهم منازلهم - وهم القلة - في محاولة للاستفادة منها أو استثمارها، على أن (المحافظة) و(الهيئة) و(الأمانة) منفردين ومجتمعين.. بذلوا جهوداً لا تنكر- بعد صدور قرار اليونيسكو - في ترصيف الشوارع والأزقة والبرحات، إلى جانب ترميم ما استطاعوا من المنازل.. وفق قدراتهم وإمكاناتهم المالية وميزانياتهم المحدودة، والتي كانت تحتاج إلى صدور هذا القرار بـ (تشكيل فريق عمل) لحساب تكاليف (ترميم) المنازل بصفة خاصة.. والحفاظ على نسيج جدة التاريخية المعماري بصفة عامة.. أي شوارعها وأزقتها وبرحاتها.. فكل هذه المواقع مجتمعة تشكل روح النسيج المعماري لـ (جدة التاريخية)؟!
***
لقد كانت (الموافقة).. شديدة الوضوح في تحديد مكونات (فريق) العمل من كل من: أمانة محافظة جدة، ومكتب ترشيد الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي، والهيئة العامة للسياحة والتراث.. وكانت أكثر وضوحاً في تحديد (أهداف) هذا الفريق..؟ الذي سيسعى لإنجازها خلال مدة زمنية محددة بثلاثين يوماً، والمتمثلة في (دراسة تكاليف الأعمال اللازمة للمحافظة على جدة التاريخية).. وهو ما يعني الموافقة ليس - فقط - على المحافظة على المباني وترميمها.. ولكنها تعني أيضاً المحافظة على برحاتها وشوارعها وأزقتها على صورتها التي كانت - ولا تزال عليها حتى الآن -، فتلك (البرحات) التي تفضي إلى شوارع، وتلك الشوارع التي تفضي إلى أزقة.. تشكل النسيج الحقيقي - المعماري والحضري - لجدة التاريخية والتي يتوجب الحفاظ عليها، فـ (البرحات) بأحجامها المتفاوتة في حارات جدة الرئيسة الأربع (الشام والمظلوم واليمن والبحر).. تشكل منظومة مكانية متناغمة يصعب معها إلغاء أي برحة من برحات حاراتها الرئيسة، ففي (حارة الشام).. مثلاً يوجد تسع برحات.. أجملها: برحتا.. فرنسا - التي لم تعد موجودة والسفارة الهندية القائمة، وأمتعها (برحة السرتي).. حيث كان يتنافس شباب تلك الأيام في استعراض مهاراتهم في قيادة الدراجات، وأوسعها (برحة الايلشي).. حيث كانت تلعب فوق أرضها فرق الحارات الكروية، وأفضلها وأوجهها (برحة العتيبى) لأنها على طريق الداخل إلى الحارة من شمالها، وأضخمها برجة مدارس الفلاح أو (الكدوة).. التي تنصب فيها كل عام: (المراجيح) والألواح للشباب، و(الشباري) للفتيات ليتمرجحن داخلها في الأعياد.
فهذه (البرحات) لا نحتاج من أجل الحفاظ عليها.. لأكثر من عدم المساس بها، وعدم استحداث أي مبانٍ فوقها.. مع استكمال رصف ما لم يرصف من أراضيها وإضاءاتها.. بـ (الاثار بك) التقليدية التي أخذت الآن شكل (فانوس) كهربائي جاهز للاستخدام والإضاءة فوراً.
وإذا كانت جدة التاريخية.. لم تعرف التشجير والمساحات الخضراء في أيامها الأولى.. نظراً لقلة المياه، وندرتها أحياناً.. إلا أنها عرفت (التشجير) والمساحات الخضراء في أيام عزها.. مع أول أمنائها: المهندس الفنان الدكتور محمد سعيد فارسي، وهو ما يمكن أن يعيد (جدة التاريخية) إلى حالة (التأسِّي).. على الأقل - بـ (شجرتي) بيت نصيف الأقدم وبيت (بنقش) الأحدث، والتي تمت زراعتها بعد دخول (العين العزيزية) إلى جدة.. وإقامة أول (بازان) في حارة اليمن في مواجهة بيتهم.. أي أن يكون هناك تشجير محدود داخل جدة التاريخية.. اتفاقاً مع حالة (التأسي)؟!
***
أما بالنسبة.. لـ (الحفاظ) على جدة التاريخية من خلال ترميم مبانيها الآيلة للسقوط وغير الآيلة، فأعلم.. كما تعلم الأمانة والهيئة.. أن هناك (قائمة) بأعداد منازل جدة التاريخية التي تبلغ سبعمائة وخمسين منزلاً.. إن لم تخن الذاكرة، وأن هناك (قائمة) أخرى.. هي (القائمة الذهبية) التي تضم مائة وخمسة وسبعين منزلاً.. أوصت اللجان الفنية والمعمارية المتعاقبة بوجوب ترميمها.. مهما كانت تكلفة ذلك الترميم ومصاريفه.. لـ (ندرتها) المعمارية!!
ولست أدري إن كانت تتطابق قائمتي الذهبية.. مع قائمة الأمانة.. أم لا؟
ولكن يتوجب عليِّ.. أن استعيد - في هذا المقال- بعض ما جاء في قائمتي الذهبية.. والتي تبدأ بـ (بيت عاشور) أو (نورولي) مالكه الجديد. والذي يقع إلى الجنوب مباشرة من (مسجد المعمار)، وهو منزل معجز في تصاميم (رواشينه)، ويأتي بعده (بيت الجخدار).. في (حارة اليمن)، والذي لا أدري لم تعثر مشروع ترميمه بالرغم من أن وكيله من (آل الجخدار).. الصديق الأستاذ محمد جخدار كان شديد الحماسة في أمر ترميمه، ثم يأتي ثالثها: (بيت رجب) في حارة اليمن أيضاً.. وهو بيت معجز في تصميمه الذي يضم معظم إن لم يكن كل مفردات العمارة الحجازية: الخارجة والكشك والديوان والمقعد والحليق و(الدقيسي) والصهاريج التي تستقبل مياه الأمطار الهاطلة إليها من (الحليق)، ثم يأتي بعدها بيت السفارة التركية في حارة الشام بأدواره الأربعة و(بلكوناته) الخشبية، التي تلتف حول ثلاثة من أدواره الذي يملكه (آل باعشن)، فبيت (أبوالعينين) في سوق الجامع، وبيت الشيخ عبدالرزاق هنداوي (الأسمنتي) الجديد في حارة الشام.. فـ (مبنى) القنصلية الباكستانية في برحة (المجلجل) في حارة البحر.. والمستأجر من (آل بخش).. فـ (بيت) الشيخ محمد صالح أبوزنادة على تلة (العيدروس).. فـ (بيتا): البترجي في حارة الشام اللذان شغلهما السفارة الأمريكية.. قبل انتقالها إلى (بيت زينل) على الواجهة الشمالية من شارع الملك عبدالعزيز.. أما مبنى وقف (الشافعي) المجاور لـ (المسجد) بـ (أدواره) الأربعة الفارهة.. فأظن أنه جرى ترميمه مع ترميم المسجد، الذي أصبح هو ومئذنته.. تحفة الناظرين.
فإذا تم ترميم هذه المواقع.. إضافة إلى ترميم أسواق جدة التاريخية: الخاسكية و(العلوي) وسوق البدو وسوق الجامع والبقية الباقية من (سوق الندى).. إلى جانب ترميم المباني والمنازل التي سبق ذكرها، وتلك التي سبق ترميمها.. فإننا سنحد بين أيدينا في النهاية (جدة تاريخية): جميلة وراقية لا تمل النفوس من زيارتها والتردد عليها.. وهي تفتح صدرها كل عام لاستقبال إجازتي: (الربيع) ومنتصف العام ومهرجاناتهما.
***
لكن.. ونحن نرجو التوفيق لـ(فريق العمل) هذا لـ (دراسة تكاليف الأعمال اللازمة للمحافظة على جدة التاريخية).. نود أن نذكر هذا الفريق بـ (الابتعاد) عن المبالغات والمغالاة في حساب تكاليف تلك الأعمال ورصدها.. فـ (الظروف) غير الظروف، والوقت غير الوقت.. فـ (الهدف) هو أن نحافظ على (جدة التاريخية).. لا أن نتباهى بما انفقناه عليها..!!