د. محمد بن عبداللطيف الملحم
فيما يلي استدراك لبقية محاضرة معالي الدكتور محمد بن عبداللطيف الملحم عميد كلية التجارة الأسبق. وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السابق التي ألقاها في مجلس الشورى متحدثًا عن ذكرياته أمام أعضاء وعضوات المجلس وقد نشر الجزء الأول والثاني منها في وقت سابق، وفيما يلي الجزء المتبقي من المحاضرة:
«ونظرًا لأنني قد أعددتُ مشروعَي النظامين، ولأنه لم يبق على قيد الحياة من أعضاء اللجنة العليا إلاَّ اثنان هما معالي فضيلة الشيخ «صالح بن محمد اللحيدان» ومحدثكم، أرى، كحقيقة تاريخية، أن أقرر ما يلي، وفي تجرد تام، وبقدر ما تسعفني به الذاكرة، عمَّا دار في اللجنة العليا من مناقشات، وعن إسهامات البعض من أعضائها بما فيهم رئيس اللجنة..
(1) كان رئيس اللجنة سمو الأمير نايف يُحاور ولكن في أناة وأدب جم، وكان يستمع للرأي الآخر، وحتى إن لم يقبله فهو يحترمه، وكان الأمير يتدخل عند اللزوم. وكان له طروحات في منهجية نظام الحكم ودستوريته كان يعرضها خلال الجلسات.
(2) كان رئيس اللجنة ما بين فترة وأخرى أثناء جلسات اللجنة يُثْريها بآرائه في منهجية نظام الحكم الأساسي بالذات، كما كان واسطة الاتصال بين «القيادة العليا» وبين اللجنة حينما تتعرَّض اللجنة أثناء مناقشاتها لنقاط حساسة في مشروعي النظامين فيُزود اللجنة بمرئياته، ومرئيات «القيادة العليا».
(3) أعطى رئيس اللجنة الحرية المطلقة لأعضاء اللجنة ليناقشوا، ويجادلوا، ويدْلوا بما يعُنُّ لهم من أفكار عند مناقشة مواد وبنود مشروعَي النظامين. وكان يلتزم سموه الصمت إذا حمى وطيس النقاش، كما كان يتدخل عند اللزوم إذا اقتضى الأمر.
(4) كان أعضاء اللجنة يتفاوتون فيما يتعلق بالمناقشات، كان البعض منهم صامتًا أحيانا، والبعض الآخر يُناقش، ويَقترح، ويُعارض في حرية وشفافية وصراحة تامة. هذا الحال، في حقيقة الأمر، جعل أعضاء اللجنة يعتبرون أنفسهم كما لو كانوا إخوة في أسرة واحدة.
(5) كانت اجتماعات الجنة مبرمجة مرة كل أسبوع مساءً لعدة ساعات في مقر الديوان الملكي بالمعذر. وكانت لا تجتمع حينما تواجه المملكة صعابا وطوارئ ذات طبيعة سياسية.
(6) وكان في اللجنة فُرْسَانٌ يناقشون ولكن كان على رأسهم معالي فضيلة الشيخ «صالح بن محمد اللحيدان» عضو هيئة كبار العلماء وعضو المجلس الأعلى للقضاء. كان الشيخ «اللحيدان» محاورًا لبقًا، ويعرف من أين تؤكل الكتف كما يقال. وكان ذا اطلاع واسع في علوم الشريعة الإسلامية، وحريصًا للغاية على أن ينسجم نظام الحكم الأساسي بالذات مع قواعد الشريعة الإسلامية. وكان فضيلته يقرع الحجة بالحجة بأدلة مقنعة في مناقشة مصطلحات قانونية وسياسية وَرَدَتْ في شتى مواد مشروع نظام الحكم الأساسي بالذات. ولقد استفدتُ من تداخلاته كثيرًا. وكان من المصطلحات التي كانت محل جدل ونقاش مستفيضين: السيادة، الحاكمية، مفهوم ولي الأمر أو أولي الأمر في الإسلام، الدستور، التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، موقع القرآن والسنة في إطار نظام الحكم، السلطة التنظيمية، الفصل بين السلطات النسبي والمطلق، الشرعية الدستورية، القومية العربية، الإقليم كركن من أركان الدولة، المشرع، العصمة، الشعب، استقلال القضاء وانفراد ولي الأمر بتعيينهم وإقالتهم، العلاقة بين نظامي الحكم الأساسي ونظام الشورى وغيرها من المصطلحات. وفي جلسة عاصفة ذات مساء اشتد النقاش بيني وبين فضيلته، وحمى وطيسه لدرجة أنني خُلْتُ، بل وتوقعتُ، أنني سوف اسْتَبْعْدُ من اللجنة وحدي أو كلانا: فضيلة الشيخ وأنا. وبعد يومين كنتُ في مكتب جلالة الملك خالد رحمه الله بالمعذر صباحًا، وكان بالمكتب معالي الدكتور «رشاد فرعون» فقط. سألني جلالته، وهو يبتسم، لأحدثه عما تم في الجلسة التي وسمتها بالعاصفة؟ قلت لجلالته: لو سألتم يا صاحب الجلالة، رئيس اللجنة لعله أبلغ مني في تبيان ما حدث. صَمَتَ جلالته، وقال معالي الدكتور رشاد، وهو مطأطأُ الرأس ومسبحته بين أطراف أصابعه، معلوم... معلوم... وهكذا تبين لي أن جلالته كان يتابع ما يدور في اللجنة عن بُعد.
(7) لم يُستخدم «نظام التصويت» في جلسات اللجنة، بل كانت قاعدة «التوافق» هي المستخدمة، وبمعنى أن النقاش لو اشتد، أو الجدل لو احتدم حول «مادة» أو «بند معين» أو مصطلح معين كان تَحَرِّي «المصلحة العامة» في صياغة المادة أو البند هو المعيار الوحيد. وأحيانا كان المادة أو البند المختلَف عليها تؤجل لجلسة أخرى.
(8) وفيما يتعلق بمشروع «نظام المقاطعات» فهو ليس من إعدادي. أُحِيلَ إلى «اللجنة العليا» ملف يحتوي على «مشروع نظام المقاطعات»، وكان من إعداد لجنة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير «سلمان بن عبدالعزيز: أمير مقاطعة الرياض وقتها. لقد دَرَسَتْ «اللجنة العليا» مشروع النظام مادة مادة، وللحقيقة والتاريخ بودي القول أن بالملف أراء نيرة وعميقة لمعالي الأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري أمير منطقة الجوف وقتها في مشروع النظام وبالأخص في «نبض» العلاقة ما بين الحاكم الإداري وفروع الوزارات بالمقاطعة.
(9) كان لبعض أعضاء اللجنة العليا آراء في شأن توزيع المقاطعات بالمملكة وكان منها رأيي أن تكون الأحساء «مقاطعة» أي «منطقة» باعتبارها «وحدة إدارية زراعية» قائمة بذاتها من الناحية التاريخية، وأيدني في ذلك معالي الأستاذ عبدالوهاب عبدالواسع. لم تأخذ اللجنة بما ارتأيناه، بل كانت قاعدة «التوافق» هي السائدة كما سبق القول، وعلى اعتبار أن توزيع «المقاطعات» أو «المناطق» أو إعادة توزيعها هو شأن سيادي خالص.
(10) مُسمَّى مشروع نظام المقاطعات قد أُعيدت تسميته ليكون مُسمى «نظام المناطق» وذلك بالنظر لما بين مصطلح «المقاطعة» ومصطلح «المنطقة» من فوارق في الفقه الإداري والدستوري. «المقاطعة» تعني «استقلالية الوحدة الرئيسية للإدارة المحلية» كما لو كانت «شبه دولة» في إطار «الدولة الفدرالية» بينما «المنطقة» تعني «وحدة جغرافية إدارية» في «دولة واحدة».
(11) وقبل صدور أنظمة: النظام الأساسي للحكم، ونظام الشورى، ونظام المناطق بسنة تقريبًا أعيد تشكيل اللجنة... وخرجتُ منها لانشغالي بأمور سياسية أخرى وقتها، وَضُمَّ إليها معالي الشيخ «عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري» مساعد رئس الحرس الوطني وقتها، ومعالي الدكتور «مطلب النفيسة» رئيس شعبة الخبراء بمجلس الوزراء.
(12) لم تُسجل وقائع جلسات اللجنة العليا على مدار اثني عشر عام، وللحقيقة والتاريخ أن ما دار بها من مناقشات كان ذا أهمية كبرى. وكم كنت أتمنى لو سُجِّلتِ الوقائع للتعرف على مضامين بعض المواد والبنود التي انتهت اللجنة إلى صياغتها، وكانت محل جدل بالذات وذلك لتحقيق غرضين: الأول أن من اختصاص مجلس الشورى تفسير الأنظمة، إذ ربما يستعين المجلس بهذه الوقائع في عملية التفسير هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أن تكون وقائع الجلسات عونًا للأساتذة المناط بهم تدريس الدساتير في كليات القانون في جامعاتنا بما فيها الدستور السعودي ذي الأجنحة الثلاثة وذلك للتعرف على مقاصد اللجنة من صياغة المواد التي انتهت إليها عندما يحاضرون لطلابهم.
(13) وصدرت الأنظمة الثلاثة بأوامر ملكية في عام 1412هـ، وبصدورها انقطعت صلتي بالأوامر فيما عدى حضوري كوزير دولة وعضو مجلس وزراء لجلسات «مجلس الشورى» في مناسباته الرسمية حتى عام 1416هـ وهو العام الذي أُعِيدَ فيه تشكيل مجلس الوزراء فخرجت من المجلس مع (18) وزيرا.
(14) وفي عام 1414هـ صدر نظام مجلس الوزراء برقم أ/ 13 وتاريخ 3-3-1414هـ، وكانت مشاركتي فيه عند عرضه لدى مجلس الوزراء فقط. وهذا النظام في رأيي كان بمثابة «وثيقة دستورية» أكثر منه نظام أو قانون في الأعراف الدستورية بحكم نصوصه. ولكن صدر كنظام وهو مع نظامي الحكم الأساسي ومجلس الشورى يشكلون ثلاث وثائق دستورية، ويشكلون ما يمكن أن أسميه من وجهة نظري «بالدستور السعودي». وسوف أشرح وجهة نظري في الحوار إذا انطلق في نهاية حديثي عما أقصده من ذلك.
وأختم حديثي لكم أيها الأخوة بهذا، وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.
إضافة مهمة
وعلى إثر انتهاء حديثي انطلق حوارٌ هامٌ ومثمرٌ بيني وبين البعض من الإخوة الأعضاء الحاضرين عن نقاط جوهرية أثرتها، وتركز الحوار حول المقصود من «الفصل بين السلطات» في ضوء المادة 23 المحورية من «نظام الشورى» التي مَنَحَتْ بُعْدًا عميقا لمجلس الشورى في العملية التشريعية، وهو حوارٌ في حوزة تسجيلات مجلس الشورى، ولو نُشِرَ ففيه فائدة ولا سيما عن «صدام حضاري» نافذ ومقلق في شتى مفاصل الدولة نعيشه الآن بين مصطلحي: «القانون» و»النظام»، وتداعيات استخدامهما في شتى مرافق سلطات الدولة الثلاث: «السلطة التنظيمية» و»السلطة التنفيذية» و»السلطة القضائية» التي مرجعها «الملك» بموجب نص المادة 44 من نظام الحكم الأساسي.