د.فوزية أبو خالد
تسميها الحقول سنبلة المواسم..
تسميها الواحات سدرة الصحراء..
يسميها القلم أشجار الحور والسرو والطلح..
تسميها اللغة نخلة البلاد طليعة النساء..
تسميها التجارب سيدة الصبر وسيدة النجاح وحمالة الصعاب..
أسميها في مسيرة مشتركة رمز الوفاء، نقاء الهواء، عروة الصداقة في القرب والبُعد، وفي الشدة والرخاء..
أسميها بنت الشريفة نور وأم الإباء.
كنت أقرأ لها وتلميذات المدارس ظنًّا منا أنها في عمر مفتشات مدارسنا.
لطفية الخطيب - رحمها الله - وبنات الدباغ وإذا بي أكتشف بعد أن شدتني بصدق حرفها لعالم الكتابة أن الكاتبة خيرية السقاف وإن كانت ملء سمع وبصر مجايليها من القراء لم تكن قد تخطت العشرين عامًا بعد أو أقل، وأنها كانت بنفسها تحمل مقالاتها وهي بنت العاشرة للبريد، وترسلها لجريدة الرياض.
كانت من جيل وإن لم يسمع بحرق المراحل مشتعلة بحلم التحليق وتجسير الفجوة الحضارية التي قسمت حياة النساء بين ما قبل مرحلة تعليم البنات وما بعد تعليم البنات.
لا أزال أذكر كأنه أمس وكنتُ حينها للتو بدأت أكتب عمودًا صحفيًّا يوم هاتفني رئيس تحرير مجلة اليمامة أ. محمد الشدي، وأخبرني بأن لي رسالة خاصة من الكاتبة خيرية السقاف. صعقت وكدت أطير من الفرح متقطعة الأنفاس. جلست أعد الأيام لوصول البريد الصحفي البطيء, فلما هاتفني أ. عبدالله جفري الكاتب العلم وقتها صاحب الظلال - يرحمه الله - بعد أيام عدة ليقول لي إن الخط وصل من الرياض لجدة، ركضت بنفسي لجريدة عكاظ، واستلمت الرسالة التي فاجأتني حين فتحتها بخط غاية في الأناقة، وكلمات غاية في الشفافية، ترحب بي في عالم الكتابة. أما دهشة الدهشات أنني وجدت خيرية قد أرسلت لي إمعانًا في الثقة صورتها الجميلة الحالمة مع كلماتها المترعة بالشغف وصداقة البنات. ولا أظن أنه بقي بنت في مدرستنا المتوسطة الأولى، ولا بنت في حينا (حي الرويس) حينها، لم تسمع بخبر الرسالة، وتفتن بلمس الهدية الساحرة.
ذلك كان سرًّا من أسرار المشتركات بين الكاتبات.
كبرت خيرية على حجر الصحافة، ومثلما غردت: «وهبت القلم عمري فأعطاني الحياة».
كانت تكتب بأسماء عدة، وليس باسمها فقط، وكان أسمها - ولا يزال - علامة فارقة في ملامح الصحافة السعودية، بل الكتابة الصحفية عمومًا. ولا بد أن لها جميل البدايات لمن اعترفت أو أنكرت فضلها من بنات جيلها وأجيال تالية؛ فاللبنت النحيلة السمراء دائمة الشباب سبق القلم. هناك من قلدها ونجح، وهناك من قلدها وخال أنه نجح مع فشله الذريع. كما هناك الأقلام المستقلة التي استمتعت برفقتها على طريق ليست آهلة إلا بالإخلاص للحرف. ولا يزال عالقًا بعقلي ريش كلمة كتبتها لها أميمة الخميس قبل عقدين كإهداء لأحد كتبها، قالت لها فيها - وهي محقة - ما معناه: «إلى السيدة التي شقت اليم بترياق القلم لنعبر جميعًا لبرزخ الكتابة». وبالمثل من الوفاء كلمات نحتتها لها د. فاتنة أمين شاكر، وهي سيدة من سيدات البدايات التي طالما كتبت لها كلمات فارهة وشفيفة عن مشتركات العقل والروح في عشق الكتابة. ولا بد أن أسجّل في هذا السياق كلمة حق، أرخ بها الكاتب عبدالله نور بداية خيرية السقاف في جملة واحدة بقوله: «تلك الطفلة التي على حين غرة صارت كاتبة يشار إليها بالبنان وهي بعد طفلة».
لم تكن خيرية السقاف - وهذه شهادة، على الأجيال الجديدة معرفتها - من أولى كاتبات العمود الصحفي فقط، ولم تكن من أولى من تولين منصبًا صحفيًّا بوصفها مديرة تحرير لجريدة الرياض في وقت مبكر من الثمانينيات الميلادية فقط، ولم تكن خيرية السقاف أول من قام بتأسيس مكتب نسائي للصحفيات السعوديات فقط، بما كان على محدودية صلاحياته، وضعف إعداد بنيته التحتية كمكاتب متواضعة، قادرًا على تشكيل أرضية لانطلاقة المرأة الصحفية بما خرج نسبيًّا على معهود كتابة المرأة من منازلهن رغم جدران الفصل بين عالم الرجال الصحفي الرحب وعالم المرأة الصحفي الوليد والمحدود. بل إن د. خيرية السقاف أول من قام بتأسيس أول مجلة نسائية في إطار مجلة اليمامة. كان ذلك مطلع السبعينيات الميلادية. والمميز لتلك التجربة التي لم يُكتب لها الاستمرار لأسباب لا أعلمها على وجه الدقة، أنها لم تكن مجرد مطبوعة نسائية تُعنى كالسائد «النسونجي» وقتها بحصر المرأة في اهتمامات الطبخ والتنظيف وتدبير المنزل وإسعاد الزوج بطرق تقليدية مهينة, كما أنها لم تكن تعنى فقط بمظهر المرأة وبأنواع الماكياج وكيفياته, بل إن تلك المطبوعة (هي) - وكان هذا اسمها - كانت تُعنى بعقل المرأة وبثقافة المرأة والرجل، وبكل ما يهمهما من معارف إنسانية.. إلا أن إنجازها المبكر أن كل مادتها كانت تنجز بأقلام نساء. وقد كانت خيرية بحرصها المعهود على العهد المهني بين النساء تستكتبني فيها رغم أنني كنت وقتها مفتونة بالكتابات المشاغبة، وبمراجعة إرثها العالمي شعريًّا ومسرحيًّا وفكريًّا؛ فكنت أكتب عن شعر الغضب، وعن مسرح العبث، وعن موجة أدب اللامعقول والفلسفة الوجودية في طروحات لم تخلُ من التجريب، وتلمس طرق لم تكن قد قرأنها من مصابها بعد، ولم نكن نعرفها إلا تلمسًا؛ فلم تكن في مناهج التعليم، ولا في سياق الثقافة السائدة وقتها.
إذن، خيرية السقاف تاريخ مضيء من تواريخ مشاركة المرأة في الكتابة بحلكتها وبوارقها، بما نأمل أن تقدمها خيرية السقاف لنا وللأجيال اللاحقة مكتوبًا بكلماتها هي، بأنفاسها هي، بعرقها وحبرها هي؛ لأنها هي من صنع هذا التاريخ قطرة قطرة من شظف الواقع، ومن أخيلة المطر، وأطلقته ينابيع، تدل الأجيال على أن خيرية السقاف لم تجفل من الجفاف، وصنعت فارقًا نوعيًّا في مسيرة الوطن.
أما د. خيرية السقاف الأكاديمية فاسأل دروب عليشة وحزن ونشوة البنات، واسأل الطالبات؛ فهنَّ لسان الصدق عن الأداء الأكاديمي المتفوق لتلك السيدة الملهمة.
د. خيرية السقاف التي كما خدمت العلم بالقلم تفانت في أداء واجباتها الإدارية والاجتماعية بأكثر من المتوقع أو المطلوب والمعهود طيلة مسيرتها الإدارية بالجامعة؛ فقد شهدتها بأُمّ عيني تخلع ثوب المريضة وهي منوَّمة بمستشفى الملك خالد لساعات عدة، وتذهب لتكون وكيلة لعمادة مركز الدراسات الجامعية للبنات/ لجامعة الملك سعود حاضرة في استقبال شخصية نسائية «عامة»، كانت مدعوة لافتتاح معرض الطالبات للفن التشكيلي. كما أنني سمعتُ من شاهدات عيان كيف أنها كانت تخرج من بيتها في أي وقت من الأوقات، ولو منتصف الليل أو وَجْه الفجر؛ لتذهب لسكن الطالبات حين كانت مسؤولة عن شؤون الطالبات. وهذا منتهى التفاني في مسؤولية الوظيفة، وخصوصًا الوظائف الإدارية العليا.
بيني وبينها صديقات مشتركات عدة على الدرب الأكاديمي، وعلى درب الكتابة: د. آمنة العقاد، د. ابتسام صادق، د. فاطمة الخريجي.. والكثيرات الكثيرات.
قد لا نكون د. خيرية السقاف وأنا - رغم مسيرتنا المشتركة - من مدرسة التفكير نفسها، ولا من مدرسة الأدب نفسه، لا شكلاً ولا مضمونًا.. ولكن ذلك الاختلاف كان - ولا يزال - موضع احترام متبادل. ويرجع الفضل في ذلك لروح تلك الفتاة المرأة الشمس المتحلية بمكارم الأخلاق، وأولها التسامح، وليس آخرها التسامي بالمعنى النسوي والإنساني. هذا بالإضافة إلى سر صغير كبير من أسرار النجاحات، هو الصبر والتفاني والإخلاص بالمعنى الوطني والإنساني.