سهام القحطاني
ليس صحيحاً أن الإنسان خلق حراً؛ فآدم في الجنة كان حراً بما أتاح الله له من حقوق وفرض عليه من قوانين، ولذا يصبح التسليم بأصل مطلق الحرية هو معادل للفوضى أو اللا قيمة، لأن الإنسان خلق مُحاطاً بمسؤولياته وواجباته وحقوق الآخرين والقوانين المنظمة للتعايش والترقي، وهو ما يجعله مطلق الحرية وهما بعيداً عن الواقعية.
وبذلك فإن الأصل في الحرية ليس المطلق إنما الضبط والشرطية في المجمل، وفي التخصيص فالضبط والشرطية يتحددان وفق اختلاف عقائد الشعوب وأعرافها وفي هذا الاختلاف مذاهب وأفكار ونظريات قد تقترب من الأصل -الضبط والشرطية- أو تتجنبه أو تفتري عليه، بذرائع قائمة ذات مقاصد وضرورات كما قد يدعي الفاعل.
ومن هنا تتفاوت مضامين ماهية الحريات بين الشعوب وحدودها وقيمها وأهدافها وغاياتها،وذلك التفاوت هو ما يحوّل «مسألة الحرية» إلى «جدلية ذات مخالب» في التراث الفكري للإنسان.
ولذا فإن «ماهية الحرية بكل ما يتعلق بها من متلازمات» تعد أكثر الماهيات جدلاً في تاريخ التراث الفكري الإنساني، لخمسة أسباب هي:
أنها تعد أعرق مصادر الصراع، استدامتها بالتكرار، ارتباطها بأصل فطري داخل الإنسان، تغيير معاييرها بالإضافة أو الحذف، فكّرنتها؛ أي تحولها إلى جدلية فكرية.
تنبني ماهية الحرية من خلال «منظومة التعايش» بين الأنا، الآخر، المجتمع، وهو ما يجعل فكرة «مطلق الحرية» فكرة منافية للواقع، أو قل «مهددة لسلم منظومة التعايش»، لأن الإطلاق يوّلد الاستبداد والفكر الأحادي والتطرف الثقافي.
ولذلك يعتمد بناء ماهية الحرية على «التوازن بين الحق والحدّ» لتقييد مطلق «حرية الأنا»، بحيث لا تنتج فساداً أو فتنة أو أذى.
ومن يقرر نوع ذلك الناتج هي معايير «الآخر» و»قوانين المجتمع» لا معايير»الأنا» و»طريقة تفكيرها».
ولذلك لا يمكن الفصل بين «حق حرية الأنا» و»حدود الآخر» التي تمثل له بالتعادل»حقاً» وقوانين المجتمع.
كما تختلف شروط وضوابط «حدود الحرية» من مجتمع لآخر وفق طبيعة كل مجتمع، وتلك الطبيعة تتحكم فيها العديد من الأمور مثل، الجغرافيا، التاريخ والجذور الحضارية، الدين، الطائفية، السياسة، العلم، طبيعة السلطة الحاكمة، التعليم والثقافة والإعلام.
كل تلك الأمور تتحكم في بناء ماهية الحرية وأهدافها وقيمها ودرجات توسعها أو تحجيمها.
ولذلك لا يمكن فرض «نموذج آحادي لماهية الحرية» على جميع الشعوب، وعندما حاولت الولايات المتحدة فرض «نموذج الحرية الأمريكية» على الدول التي دخلتها ودمرتها مثل فيتنام والعراق بات بالفشل؛ لأن كل مجتمع له طبيعته الخاصة، كما أن نموذج الحرية الأمريكية جاءت إليهم على ظهور الدبابات وغاصت أقدامها بدماء السكان كما أنها كانت ممثلِة لرمزية لإمبريالية الأمريكية.
إن أي نموذج للحرية قادم من خارج المجتمع هو سلطة لاستعمار المجتمع وافساده وتدميره.
والحرية تتوسع حدودها بتطور المرء وليس العكس، تضيق حدودها بتطور المرء.
لأن كلما ترقى فكر المرء اتسع يقينه بضرورة تضييق حقه في الحرية احتراماً وحماية لمصالح الآخرين ولسلمية مجتمعه؛ فاحترام حق الاختلاف الديني تمنع المرء من انتقاد العقائد التي لا يؤمن بها أو تشويهها انتقاماً من أصحابها أو من سلوك بعض منهم.
وذات الأمر ينطبق على الاختلاف الطائفي، فرفضك لمذهب طائفي لا يكفل لك حرية نقد طقوسهم بالعيب والنقصان أو تحويلها إلى ذريعة لمحاكمة سلوكهم وممارسة التمييز العنصري أو الفكري أو الوظيفي نحوهم.
فأنت حر فيما تعتقد وفيما تفكر به ولست «حراً» أن تقوله، وهذا الفاصل الرفيع بين الذهنية والقولية هو الذي يرسم حريتك بين مساري الحق والحد،لأن القول كالفعل مسؤولية، والمسؤولية من حدود الحرية.
وذلك الخط ليس مولداً للقمع الفكري أو الاضطهاد الفكري إنما «ضابط الحكمة القول وسلامة حاصله» وحماية المصلحة العامة؛ لأن الحرية التي تؤدي إلى صراع تتحول إلى وجه من وجوه الاستبداد.
كما أن حق المرء في الحرية الفكرية مكفول من خلال أدبيات الاختلاف وأساليب المنطق وأدوات النقد ومحصول المعرفة وقبل ذلك عدم تعمد الضرر أو الأذى أو تحقيق منفعة خاصة.
لكن غالباً مسار الحرية بحدي الضبط والشرطية ومقاصدهما ليس نزيهاً يسعى إلى المحافظة على احترام حقوق الجميع ومصلحة سلمية التعايش المشترك بين المختلفين والترقي الإنساني وضمان مشاركة الجميع في صناعة المنظومة التعايشية، لخضوع ذلك الضبط والشرطية لأهداف السلطات الحاكمة، التي قد يعتقد بعضها أن شيوع ثقافة الحرية الفكرية قد يهدد ثباتها واستدامتها، وخاصة إذا كان المجتمع غير مؤهل ثقافياً لممارسة تلك الحرية.
فالحرية تصنع قوة الفرد واستقلاليته ووعيه الاستحقاقي لحساب ومساءلة السلطة وهم مصادر للتأثير في إعادة صياغة السلطات الحاكمة.
وهو ما يجعل حرية الفكر مهددة لاستدامة أحادية السلطة واستبدادها، ومحفّزة على سنة التداولية.
كما أن قوة حرية الفكر لا تعتمد غالباً على صحتها بل على ما تمثله من أكثرية وهذا الاعتماد يهمش حق الأقلية في حرية متساوية على مستوى التأثير، وهذا التهميش يولد بالتراكم الصراع وتفكيك وحدة المجتمعات.
لا شك أن قوة الحرية وضعفها تتأسس وفق مفهوم الشعوب لهوياتهم وانتماءاتهم المختلفة ثم لنوع السلطة السياسية التي تحكمهم.
فمفهوم الحرية بين الحق والحد في الأنظمة الدينية تختلف عن الأنظمة اللادينية، ويتفرع ذلك الاختلاف ما بين الأنظمة الدينية التقليدية عن الانظمة الدينية ذات الصبغات الجمهورية، واللادينية تختلف أيضاً ما بين تلك القائمة على الرأسماليات أو الشيوعية أو الاشتراكية.
كما يختلف مفهوم الحرية بين الحق والحدّ وفق معاني المصلحة العامة والأمن المجتمعي والسلميّة الفكرية، وكل تلك المعاني ذات دلالات لزجة لا يمكن توثيقها اصطلاحي أو المعياري.
واضطراب الاختلاف ذلك غالباً ما يكون في مصلحة الاعتقادات القمعية وفقه سد الذرائع اللذان يحولان «حق الحرية» في نهاية المطاف إلى «حق غير مكتسب».