د. إبراهيم بن محمد الشتوي
لا أعلم بالضبط متى بدأ البحث بالعلامة، أكان سوسير في محاضراته أول من نبه على قيمتها خاصة حين بشر بعلم قائم يسمى «علم العلامات» أم بيرس هو أول من بحث في الأمر وأشار إلى أهميته، بيد أن الأمر المهم هو أن علم العلامات يقوم على الفصل بين الموضوع والعلامة التي تدل عليه، واعتبار العلامة كافية وأصيلة في الدلالة على الموضوع، فليس هناك حاجة للفصل بين المعنى والموضوع ولكن العلامة دالة عليهما معا، من خلال علاقتها بالعلامات الأخرى، والاعتماد على تقاليد العلامات نفسها بمعزل عما تمثله أو ما تتشابه معه في الواقع، أو الثقافة المحلية التي توظفها.
وبما أن العلامات تمثل فيما بينها نظامًا معيناً مقبولًا، فإن هذا النظام صورة من صور عقل الإنسان، ومن هنا فهي تدل عليه على وجه الحقيقة، وبهذا يصبح في بنائها النظري مقابلاً لبناء واقعي حقيقي، ويمكّن بناء على ذلك من فهم الظاهرة الاجتماعية أو الثقافية.
هنا يمكن أن أضرب مثلًا بتنظيم مدينة الرياض باعتباره دالا سيميائيًا، واعتبار العلاقة بين جهات الجنوب والشمال والشرق والغرب، وواقع تلك المناطق يعكس الصلة بين سكانها والوسط، ويعكس أيضًا ما تمثله من جهات جغرافية كبرى، كما أنه أيضا يعكس علاقة الوسط (المركز) في الرياض بالأطراف من أجزاء المملكة. هنا سنجد أن الوسط مكتمل الخدمات، والبنية التحتية، متقدم بالعناية بالعمران، ويمثل مركز المدينة، في حين نجد أن الأطراف لم تكتمل بنيانها بوجه عام، كما أنها تختلف في سيرورة الأعمال فيها، على الرغم أن هناك من يحب أن يقيم بين جنوب الرياض وشماله المعادلة المعروفة في الأدب بين الجنوب بوجه عام حيث الفقر والشمال حيث الغنى والتقدم كما في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال».
بيد أننا حين نتأمل الواقع نجد أن الوسط يتحرك وأن الأطراف تتحرك أيضا وتتمدد بحيث ما كان طرفا في وقت من الأوقات يصبح وسطا، وتصبح معها لعبة الوسط والأطراف أقرب إلى لعبة الدائرة إذ يكون المكان الواحد وسطا وطرفاً في الوقت نفسه، وهو ما يلغي معادلة المركز والأطراف في قراءة المدينة، ويفرض معادلة أخرى.
ومثل هذه القول عن علاقة المركز والأطراف في الرياض يمكن أن يقال أيضا عن علاقة مركز المملكة بأطرافها، فالعلاقة بينهما علاقة تناظرية بحيث لا يمكن أن نجد فرقا بين المركز والمنطقة الشرقية أو الغربية أو الجنوبية، مما يعني أن القراءة أيضًا هنا غير مجدية. الأمر الذي ينطبق كذلك على رمزية جهات الجنوب والشمال وما ارتبط بهما في الأدب العربي حين نجد أن الجنوب لا يقل عن الشمال إن لم يتفوق عليه.
هذا المثال يختلف فيه الواقع الفيزيائي والاجتماعي عن الواقع الذي تبنيه العلامة وتحيل إليه، بيد أننا حين ننظر إلى العلامة كما هي في النظرية السيميائية نجد أنا لسنا بحاجة إلى العودة إلى الواقع لأجل أن نصدق المعنى الذي منحته العلامة أو نكذبه، فهي مستقلة عما تحيل إليه من جهة، وتستمد قوتها من موقعها في تواؤم وتناغم منظم مع العلامات الأخرى، بوصفها –العلامات- بنية مغلقة لا صلة لها بالثقافة المحيطة بها، وإنما بوصفها هي ذات كيان قائم بذاته لها نظامها الخاص. الأمر الذي يجعلها مستقلة عن التأثير الخارجي، وهو ما يمنحها قوة مطلقة غير قابلة للتفاوض في إيصال الرسالة المقصودة، وخارجة عن إطار المنطق إلا ما تفرضه هي من قواعد وتقاليد، الأمر الذي يجعلها في عداد المستبدين.. أو المستبدات.