د. محمد عبدالله العوين
هذا هو واقع الحال، يبدو ثمة شبه قطيعة معرفية وفنية حادة بين ثقافات الأجيال، فما نستسيغه في القراءات والاختيارات الأدبية والفكرية والذوقية قد لا يقبله كثيرون من أبناء هذا الجيل الجديد الذي يناهز العشرين وما بعدها بسنوات قليلة.
أعترف أنني وأبناء جيلي نختلف في أمور كثيرة مع أبنائنا، وربما هي سنة الحياة أن كل جيل يختلف في أمور قلت أو كثرت عن سابقه؛ بيد أن الفوارق الآن تبدو أشبه ما تكون بالأسوار العالية بين الأجيال التي تكاد تحجب التقاء الأفكار والأذواق.
قد نبذل نحن جهدا طيبا في اختصار هذه المسافات البعيدة الفاصلة وننجح في اجتياز بعضها والاقتراب من بعض التوجهات والأفكار والأذواق للجيل الجديد من خلال متابعات عامة لوسائط المعرفة وما يثار فيها من قضايا وآراء وأفكار؛ لكننا لن نستطيع الوصول الكامل، وفي المقابل لا يبذل أبناء الجيل الجديد أي مجهود لاختصار المسافات من قبلهم؛ بل يعلن كثيرون منهم أنهم غير مقتنعين بمصادرنا الفكرية والثقافية والفنية، فهم أقرب ما يكونون إلى التمرد على القديم والتنكر له أكثر من كونه اختلاف ذائقات أو مصادر تلق معرفية فحسب.
أنا وأبناء جيلي نختلف مع أبنائنا ونصر على أننا نختلف، ونعتز بما نختلف فيه؛ بل نلقي باللائمة الشديدة عليهم في أن كثيرين منهم لا يملكون الجلد والصبر والطاقة لقراءات طويلة معمقة أو التفاعل مع سماع فني يهز المشاعر والوجدان ساعة أو تزيد.
أنا من جيل قرأ في التراث للجاحظ، ولابن حزم، ولابن عبد ربه ولابن المقفع ولأبي الفرج الأصفهاني ولابن الجوزي، وأعجب بالشنفرى وعنترة وطرفة والأعشى، وسحر بالرقة والعاطفة الجياشة في شعر جميل بثينة وكثير عزة وعمر بن أبي ربيعة والشاب الظريف، وأخذ بالمتنبي والبحتري، ووقف على أجمل اختيارات الأصمعي والمفضل الضبي.
أنا من جيل أغرم بأدب عصر النهضة ورأى فيه روح الإحياء والتجديد، وتمثل في نتاج مطلع القرن التاسع عشر الميلادي وما بعده لمفكرين وأدباء كبار كمحمد عبده ومصطفى وعلي عبد الرازق وقاسم أمين ومصطفى المنفلوطي وطه حسين ومحمد حسين هيكل وزكي مبارك وعباس العقاد ومصطفى الرافعي ومحمد حسن الزيات وإبراهيم المازني ويحيى حقي ومارون عبود والشدياق وجورجي زيدان وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة ومحمد التابعي ونجيب محفوظ وعلي ومصطفى أمين وأنيس منصور.
أنا من جيل عاش العذوبة في شعر إبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل ونازك الملائكة وفدوى طوقان ونزار قباني وبدر شاكر السياب وعبد الله الفيصل.
أنا من جيل تربى على مجلة الهلال وملحقها الزهور ومجلة العربي والدوحة والملاحق الأدبية في أبرز الصحف العربية.
أنا من جيل قرأ لفيكتور هيجو وتشارلز ديكنز وليوتولستوي وجوركي وفلوبير ولامرتين وجوته.
أنا من جيل أخذته النشوة الفنية في تجلي أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وفايزة أحمد ووردة الجزائرية ومحمد عبد الوهاب وشادية.
فهل أبناء هذا الجيل ينتمون إلى ثقافة جيلي واختياراته الفكرية والفنية الجادة؟!