تفاجأ الأوفياء والمحبون بوفاة معالي الشيخ منصور بن حمد بن منصور المالك قبل فجر يوم الاثنين 24/6/1439هـ {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} وإننا لفقدك يا أبا عبدالله لمحزونون.
ولد- رحمه الله- بمدينة الرس عام 1350هـ، وتخرج في كلية الشريعة بالرياض 1379هـ، وعمل معلماً قبل وبعد تخرجه، وفي عام 1381هـ تقلد عدداً من الأعمال في ديوان المظالم وفي عام 1396هـ عين رئيساً له -رحمه الله-.
وأبناؤه: عبدالله، ومحمد، ويونس، وعبدالإله، وله سبع بنات، وتقاعد في 1/3/1424هـ.
وفضيلته من نسل أسرة المالك وهي أسرة كريمة ومشهوة يشار إليها بالبنان والإحسان.
لم تربطني بفضيلة الشيخ منصور مصلحة مادية ولا علاقة دنيوية ولكن تربطني به مودة ومحبة خالصة لله تعالى. ومن هنا أحبه قلبي وبكاه قبل قلمي، وبعد رحيله كان الموعد جامع الراجحي بالرياض والشاهد هي مقبرة النسيم وذلك من خلال كثرة الحاضرين والمعزين والداعين.
وأحسب أن مزايا فضيلته وسجاياه كان دليلاً على نبله وخلقه وفضله وبذله ومنها ما يلي:
أولاً: مواساته للمسلمين:
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتاب الفوائد: المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال، ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء، والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم، وقد حاز -رحمه الله- نصيباً في ذلك ولم يملك الناس بماله ولكنه ملكهم بهِّمه ومواساته ومنها:
1- فتح قلبه وبابه مغرب كل يوم جمعة وافتتح جلسته بقراءة نماذج من كتب ابن القيم شارحا ومجيبا عن أسئلة الحضور، وكان مجلسه مجلس علم وغُنم وبوقاره، كان مجلسه من مجالس العلماء بعيداً عن الخوض في الأعراض، وأيضاً بعيدا عن التفكه بالأعراض التي هي فاكهة بعض المجالس.
2- وهبه الله بركة الوقت ومع أخويه صالح ومحمد كان يشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم، فكان يزور المرضى ويشيع الموتى ويلبي الدعوات ويحضر المناسبات وقد حضر زواج إحدى بناتي وكان له ثلاثة مواعيد في هذه الليلة.
3- تقدير العلماء وإنزال الرجال منازلهم، وهي خصلة حميدة ومتأصلة في عقل أبي عبدالله ويحمل حبا وتقديرا لوالدي منصور -يرحمهما الله- وفي مجلسه وأمام الحاضرين كان يناديني ويجلسني بجواره، وقال لي أخوه محمد الشيخ يقدرك ولا تجلس إلا كما يريد، وقبل حوالي شهر من وفاته التقيت به مغرب الجمعة بمنزله، ومع جلالة قدره ومنزلته ألح إلا أن يسلمني بيده الكريمة فنجال القهوة، وكأن هذه كانت هي الوداع بيني وبينه، وناقش معي الكتاب الذي صدر عن والده: «حمد المنصور المالك سجل حافل بالعطاء» أعده ابنه الأستاذ خالد، وأيضاً تطرق إلى كتاب: «والدي قاضي ثريبان الشيخ منصور بن صالح الضلعان سيرته وأسرته»والذي قمت بإعداده هذا العام وتم عرضه حاليا بمعرض الكتاب بمدينة الرياض، وأثنى عليهما خيرا جزاه الله خيرا.
ثانياً: نفع الناس:
ورد بالحديث: «خير الناس أنفعهم للناس» وهي خصلة يُقدم لها نوادر الرجال وكان الشيخ منصور المالك -رحمه الله- وكما أحسبه في مقدمتهم.
وفي زمن انشغل بعض الناس بأنفسهم ومكاسبهم حيث برزت أنانية الواقع وقلّ النافع وندر الشافع إلا أن أبا عبدالله كان نموذجا فريدا يختلف عن الناس، وكان كريما بجاهه قبل ماله، وقبل أن يُسأل كان يبادر بتفريج الكربات وتقديم الشفاعات.
وهذا الخلق النبيل أدركته وغيري كثير في عديد من المواقف وبدون كلل ولا ملل، والأمثلة كثيرة يتعذر حصرها ومن أهم تلك المواقف أنه- رحمه الله- عودني على زيارته في جلسته الأسبوعية بل وأوصاني بعدم إطالة الغياب. وفي موقف مؤثر لن أنساه أبدا في حياتي وذلك في عام 1423هـ انقطعت عن زيارته على غير العادة ستة أشهر، وأجلسني بجواره وبقلبه قبل لسانه سألني قائلاً: أين أنت غائباً كل هذه المدة؟ قلت له: إنني مسافر، وألح قائلاً: وإلى أين أنت مسافر؟ قلت: مقيما تلك السنتين بالأفلاج مع ابنتي المعلمة، وتألم قائلاً وكل هذه المدة وأنت صابر وبعيد عن أسرتك، وبدون طلب مني بادرني - جزاه الله خيرا- قائلاً لي: بأن وزير التربية والتعليم أحد طلابه وسيكلمه من أجل طلب نقل ابنتي إلى مدينة الرياض، وبجلالة قدره كلمني من الغد وبخط يده الكريمة سلمني شفاعة منه خطية للوزير وأفادني بأنه كلمه شخصياً وأعطاني خطاب الشفاعة طالبا الوزير حضوري في منزله.
وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن، وألح مرة ثانية بتقديم شفاعة ثانية وخطية ومع ذا لم تنفذ شفاعته. ومع هذا كله ومع أن نقل المعلمات ومهما كانت ظروفهن ووحدتهن وحاجتهن إلا أنه كان للبعض منهن فقط يعتبر أعجوبة مستحيلة وثامنة تضاف إلى عجائب الدنيا السبع؟!!!
وبرحمة الله أولاً ثم بسهام الليل التي انفتحت لها أبواب السماء بشرت معاليه بأنه ومن خلال عون الله ثم الدعاء فقد تم نقل ابنتي.
وعندما هزني وفاة الوالد الغالي الشيخ منصور المالك تساقطت دمعاتي وتوالت دعواتي واستغفاراتي له ولوالديه يرحمهم الله، وهنيئاً لأبي عبدالله كل هذا الأجر والجزاء من الله تعالى وكأني به يردد: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ}، وفقد أبي عبدالله وأمثاله يعتبر خسارة كبيرة قليلا ما تعوض، يقول يحيى بن يوسف:
والصالحون على الذهاب تتابعوا
كأنهم عقد تناثر نظمه
ثالثاً: رد الجميل وعدم نسيان الجميل:
حبيبنا الوفي الشيخ منصور المالك-رحمه الله- الذي بذل كثيرا من وقته وفضله وجده وجهده في مواساة الناس ونفعهم بالإحسان إليهم وهو الآن في قبره وحيداً إلا من عمله يريد منا ما يلي:
1- أمام المغانم والمشاغل وكما ان فضيلته في حياته لم ينسنا لذا فإن من الواجب ألا ننساه بعد وفاته.
2- أوصي نفسي ومحبيه وعارفي قدره ونائلي فضله وفي مقدمتهم أسرته وإخوانه وأخواته وأبناؤه وبناته وطلابه وزملاؤه وبنو وطنه وأهالي مدينته مدينة الرس بالاستغفار له والدعاء له ولأنفسهم عملاً بقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك الموكل ولك بمثل ذلك).
3- سيرة فضيلته ومسيرته حافلة بالعطاء والسخاء ومن باب التعاون والإحسان حبذا إعداد كتاب عنه يتولى إعداده أحد أبنائه أو بناته بالتعاون مع محبيه نفعاً له وإحياء لذكره.
رحم الله فقيدنا الغالي وأسكنه ووالديه وذريته ومحبيه الفردوس الأعلى من الجنة.
** **
- صالح بن منصور الصالح الضلعان