حمّاد السالمي
بعيدًا عن التصنيفات الجاهزة دائمًا؛ لتحديد الكينونة الشخصية لأي منّا على أسس عشائرية وقبلية؛ أو حتى دينية ومذهبية ومهنية، فإن للذات المعرفية؛ قيمة عظيمة في الحياة، بل وخدمة تؤديها للبشرية، وهي التي قد تحدد بدورها أكثر من محدَّد آخر، بمعنى.. أنها تتدخل إلى حد ما؛ في الكينونة الدينية والمذهبية، وتحضر بشكل أساسي في الكينونة المهنية للشخص، فالمهندس والطبيب والمعلم والميكانيكي؛ الكل يجد نفسه في هذا الميدان العملي بناءً على تعليم ودربة أو خبرة مسبقة، ومثل هؤلاء كثير من الذين تقوم حياة الناس على دراساتهم ومعارفهم وتجاربهم وخبراتهم؛ تلك التي اختاروها هم لأنفسهم ولم تفرض عليهم.
في زمن الإعلام الحديث و(السوشيال ميديا)؛ يجري خلط كبير في الضخ المعرفي الذي يستهدف الإنسان المعاصر (المُشيّأ) رقميًا شاء أم أبى. ففي مكان واحد، ومجلس واحد، لا تستطيع أن تحدد (مهنيًا)، أو تصنف (معرفيًا) من هم معك، إذا لم يكن لك معرفة مسبقة بهم. هل هذا طبيب..؟ هل ذاك سياسي..؟ وهل هذا وذاك شاعر وإعلامي ومخترع..؟ الكل في واحد، والواحد في الكل. الاختراق المعرفي عبر وسائطه السريعة والفعالة؛ ألغى الحواجز العقلية، وخلط المفاهيم الفكرية، وأبطل المحددات المعرفية القديمة التي كانت تسم الشخص بما هو عليه من علم ومعرفة في ميدان واحد، فالشاعر شاعر، والقاص قاص، والخبير والمجرب.. وهكذا دواليك. كل واحد في دائرة عُرف بها وعُرفت به، لا يتجاوزها كثيرًا؛ وإلا اهتزت عروش مكانته وعلمه ومعارفه التي ظل حاملاً راياتها.
المشكلة ليست في الكم المعرفي الذي يظهر به هذا الإنسان وذاك، ولا حتى في التنوع الذي يصبغ به طروحاته في التعبير عن آرائه وأفكاره. المشكلة تكمن في التمرير السريع الخاطئ لكثير من المغالطات العلمية، وكثير من الرؤى الفكرية التي تتحول في حالة التمرير الجمعي الغبي؛ إلى مسلمات لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وفي ظل هذه السوق المعرفية الكبيرة، يتعملق الصغار، ويتقزم الكبار، ويظن بعض المتلقين الذين ليس لديهم وقت للنقد؛ أنهم مثقفون ومفكرون ومنظرون وعباقرة، يدل عليهم حماسهم في تبني فكرة غرد بها إنسان في شرق الصين، وتلقفها آخر في غرب أمريكا، ورددها ثالث في عالمنا الثالث، لتصبح حقيقة ومسلمة ومجربة وصالحة لكل البشر.
من حق كل منا أن يسأل نفسه: مَن أنا..؟ ومَن هم هؤلاء الذين حولي..؟ إذا عرفت أني كائن بشري يعيش في زمن التشييء الرقمي؛ يتأثر ويؤثر في الوقت نفسه؛ وأني مستهدف معرفيًا بما هو ضار ونافع؛ وأن الآخرين ممن أعرف وممن لا أعرف هم مثلي؛ يتعرضون لهذا الإغراق المعرفي. في هذه الحالة؛ يجب أن أستفتي قلبي، وأن أستخدم عقلي في تمحيص ما أتلقى، ومن ثم الأخذ بالشك. إن الشك داء، لكنه قد يعلم الحكمة، ومن الحكمة ألا آخذ بما يُقال ويُسمع، وأن أشك في كل شيء أراه أو أسمعه أو أحسه؛ حتى أصل بنفسي إلى الحقيقة مجردة. ومن المهم كذلك؛ ممارستي للنقد، الذي هو أحد أهم شروط التمحيص المعرفي منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، وبذلك يصبح قرار القبول أو الرفض بيدي لا بيد عمرو ولا عمرة، وأنجو من جرم النقل البليد، ومن جريمة التمرير الغبية.
أدعو مخلصًا إلى أن يتوقف كل منا ليحاسب نفسه بنفسه.. كم عدد الرسائل التي تلقاها خلال شهر أو سنة؛ وسارع فورًا في تمريرها لآخرين..؟ ماذا تعني له وماذا تعني لآخرين..؟ هل هو الآن راضيًا عما تحمله وتعكسه من أفكار وتوجيهات وإيحاءات وتعليمات وخلافها..؟.
كم عدد الرسائل التي تصلنا بشكل يومي؛ ويقف خلفها دجاجلة، وجهلة، ومكرِّهون، ومنفرون، ومكفرون، ومضللون، وانتهازيون، وتجار دين.. وكم عدد أولئك الكذابين المتاجرين بالجهل، الذين يمررون رسائل وهمية عن التطبيب والتسويق، وهدفهم جمع الأموال بطرق غير مشروعة..؟.. كم عدد المؤسسات العدوة التي تعمل ليل نهار لحبك القصص، واختلاق الروايات، وهدفها ضرب المجتمع في أمنه ووحدته وقيمه وأخلاقه..؟.
مَن أنا..؟ مَن أنتم..؟.. بل كيف نحن في مواجهة (علم صناعة الجهل).. العلم الذي من بين أهدافه: نشر الفتن، وهندسة الحروب، والقتل والتدمير، في مجتمعات تستجيب لهذه الصناعة الخبيثة، عن طريق وسائط (السوشيال ميديا).
ما أكثر المقنَّعين الذين يخرجون إلينا ليل نهار من عباءة التداول المعرفي السريع عبر (الواتس أب)، وعبر رسائل ومقاطع في وسائط معرفية كثيرة. وما أكثر الذين يُخدعون ويُصدقون كل ما يتلقون من هذا الكم المعرفي، فلا يتوقف هذا التجهيل عندهم، ولكنهم يشركون غيرهم في مستنقع الجهل والحمق والضلال.