عبدالعزيز السماري
ميل الإنسان لتقديس الأشياء من حوله قديم جداً، فقد كانت ظاهرة الطوطمية تمثل أول حاجات الإنسان الفطرية للدين، والطوطمية فكرة بدائية تعتمد على العلاقة المقدسة بين جماعة إنسانية وكائن طبيعي، والطوطم يمكن أن يكون طائراً أو حيواناً أو نباتاً أو جماداً، أو ظاهرةً إنسانية، مع اعتقاد الجماعة بتميزه وقدسيته عن بقية البشر..
كان جوهر الدعوة في الإسلام يقوم على نفي المقدسات الطبيعية من بيئة الإنسان، وتوحيد القدسية والعبادة لله عز وجل، وكان ذلك بداية لتحرير العقل من الأساطير والجهل والانقياد الأعمى للآخرين، وكان نتيجة ذلك أن اجتاحت دعوة الدين الحنيف جزيرة العرب، واختفت مظاهر عبادة أو تقديس الطوطم، وكانت الرسالة تحث العباد على العمل والعلم والتفكر في آيات الله..
كانت بداية الحرب على الخرافة بأن حرم الدين الذهاب إلى الكهنة والعرافين الذين يعتقدون أنهم يعرفون الغيب أو يؤثرون فيه، ونفى أن تكون في الدين زلفى أو وساطة بين الإنسان وربه عز وجل، وكان نتيجة ذلك أن خرج العرب من أطوار التخلف والجهل إلى أن يكونوا سادة العالم في العلم وغيرها من شؤون الحياة.
كانت كلمة السر في ذلك الحراك التاريخي هو تحرير العقل من الخرافة ودفعه نحو التفكر في أسرار الحياة، وكان ذلك بمثابة الفهم المجرد من أي خرافة أو سلطة مزيفة، لكن ذلك الفهم العقلاني للدين الحنيف تغير بخروج ما يُطلق عليه برجال الدين أو أولئك الرجال الذين نذروا أنفسهم لخدمة الدين وحمايته، وكأن التاريخ يعيد نفسه، فالصراع السياسي كان دوماً ما يحتاج إلى المقدس أو الرجل المقدس لكسب ثقة الناس وطاعتهم..
كان ذلك مدخلاً لعودة الطوطم المقدس في حياة الإنسان، وقد عبرت بعض مظاهر التصوف والتشيع عن تقهقر العقل إلى كهفه القديم، ومن ثم تسليم مفاتيحه إلى الرمز المقدس، الذي تمثل منذ عصر السقوط فيما يُطلق عليه بالأولياء أو السادة أو رجال الدين.
كان ذلك خروجاً عن الحرية المسؤولة التي وهبها الله عز وجل لعباده، وللحرية التي منحها للإنسان أن يبحث عن ربه عز وجل من خلال العبادة والنظام المعرفي في الطبيعة، وكان ذلك خروجاً عن منطق الحرية الذي ساد أجواء الرسالة الدينية في القرون الأولى، وإعلان عن عودة الحراس أو الرموز المقدسة إلى حياة البشر.
كان أثر ذلك واضحاً في المجتمعات العربية والإسلامية خلال القرون القليلة الماضية، فقد سادت الخرافة وسيادة الرموز الطبيعية المقدسة، وكان التقديس ظاهراً للأشخاص وللقبور، ولم تسلم مختلف المذاهب الدينية السائدة من ظاهرة تعظيم رجال الدين، وقد طغت على كل المظاهر السابقة، فقد كانت أطروحاتهم واجتهاداتهم وسلوكهم خارج الإطار الثقافي للنقد، وكان تأثر ذلك واضحاً على الرعية..
وقد أستطيع القول إن ما وصلنا إليه خلال الخمسة العقود الماضية يعتبر استثنائياً على جميع المستويات، ويعبر عن معجزة عقلانية حدثت بالفعل، وقام بها مثقفون ونقاد من مختلف التوجهات، وقد كان بعضهم محسوب على المدرسة الدينية المغلقة، لكنه آثر الخروج من أسوارها والتحليق عالياً في سماء العقلانية المؤمنة..
لكن بقايا من هذا الأثر سيظل موجوداً في حياة البشر، فالتعلق بالرموز والمظاهر الطبيعية والإيمان بمعجزاتها جزء من تركيبة بعض العقول غير الواعية، وسيستمر، لكن حتماً سيقل تأثيره على الناس، إذا تجاوزت مشاريع التعليم والنهضة التنموية تحدياتها في المستقبل القريب.
وما أود الوصول إليه خلال هذه العجالة أن ثقافة الخرافة والطوطم المقدس قد تعود إذا فشلت التنمية في أي مجتمع، فالإنسان في طبعه يخاف من المجهول إذا أغلقت الدنيا أبوابها في وجهه، ولهذا يجب التركيز عالياً في دفع عجلة التعليم وثقافة العمل وفتح المشاريع الجديدة من أجل تجاوز مرحلة التعلق المقدس بالأشخاص..
كذلك قد يفتح الاستبداد في المجتمعات الشرقية أبواباً لعودة الخرافة ورموزها إلى السيادة الاجتماعية، وما حدث في العراق مثال حي على ذلك، فقد تسببت السلطة والقبضة الحديدية في عصر حزب البعث إرجاع الناس الخائفين إلى حضن الطوطم في الكهوف المظلمة، وكانت النتيجة انتكاسة عمرها عشرات القرون، وقد تستمر إلى عقود أخرى قبل أن ينتصر الوعي والحرية المسؤولة وحقوق الأفراد بغض النظر عن هويات السكان، أو مرجعياتهم، أو ألوانهم، أو أنسابهم..