د. محمد بن إبراهيم الملحم
الأب الروحي لعلم الاقتصاد آدم سميث أشار إلى أن التخصص مع تخصيص العمل هما أكبر عاملين لسرعة النمو الاقتصادي، وإذا كان التخصص سابقًا عامًا (علمي/ أدبي) فهو في وقتنا المعاصر قد أخذ شكلاً مختلفًا (وهو المتوقع) وما لم ندرك ذلك فلن نلحق بركب التقدم المتسارع، تزويد الطالب بكل المعارف ليس مهما اليوم بل التمكين والإبداع ولا يكونا إلا بإيجاد بيئة تعليمية جريئة تنافس البيئات العالمية بل تتقدم عنها، أعتقد أنه إذا كان طلاب اليوم في العالم المتقدم يقتصرون على تعلم العلوم والرياضيات وبعض المعرفة الأدبية والإنسانية فإن هذا التوجه يمكننا تناوله بأسلوب «أكثر» إبداعا حيث يتخصص طلابنا في العلوم والرياضيات والنزر اليسير من المعرفة الأدبية والإنسانية مع ما يكفيه من علوم الدين ومهارات اللغة وتطبيقاتها، وهذا لا يعني تفريغ إنسان مجتمعنا من جماليات المعرفة في العلوم الأدبية والإنسانية لأن هذا المقترح يؤكد أن يكون تحصيل الحد الأدنى منها متطلب إجباري لا نتنازل عنه وإنما يؤجل إلى ما بعد التخرج، حيث يكون اجتياز الخريج لاختبار «تحصيلي» وطني في هذه المجالات متطلبًا وطنيًا للوظيفة (لا للجامعة كما هو اليوم)، فتلك معارف لا تحتاج إلى المدرسة والتدريس وإنما يحصلها الطالب بنفسه في سن الرشد، وهذا التوجه سيساعد معلم العلوم على إجراء التجارب في المختبر (وتكرارها) ويساعد معلم الرياضيات على الإبداع في حل المسائل بأكثر من طريقة ومعلم النشاط اللا صفي ليقدم الهوايات القادحة لإبداعات الطلاب... فالوقت المتاح لكل هذه القيم الإضافية سينقل التعليم مرحلة أخرى، وكل ذلك في إطار المدرسة المتخصصة (تجهيزات متكاملة ومعلمين متمكنين يعشقون مجالهم)، وأستطيع تسمية هذا التوجه التغيير المربك Disruptive Change وهو مصطلح لا يحمل السلبية في معناه وإن أوحى لفظه بذلك، بل يعني أنه «يربك» السوق ويغير المعادلة وتظهر نتاجات جديدة كليا تغير من وجه المجتمع إلى وجه آخر مختلف عن السابق يمحو ما سبق تمامًا (وأفضل مثال: الجوال أخفى البيجر - القنوات الفضائية أخفت البث التلفزيوني ...الخ).
المكسب الأكبر هو في كمية العلماء الذين ينتجهم هذا التوجه (يعرف العلماء في العلوم بأنهم من يحمل الدكتوراه ويشارك في صناعة العلم) ولا يقتصر هؤلاء على العلوم فقط (الفيزياء والكيمياء والرياضيات والأحياء وفروعها)، بل يشمل تخصصات الهندسة والطب وتقنيات المعلومات بكل فروعها الدقيقة، فهؤلاء هم مكونات إنتاج اقتصاد المعرفة الذي يقوم على الاختراع والابتكار من خلال مراكز الأبحاث الوطنية ومراكز التطوير في الشركات الإنتاجية المحلية (افتراضًا)، والسؤال هو لماذا نعتقد أن العلماء سيزيدون مع توفر المدارس الثانوية المتخصصة، والجواب ببساطة أن استكمال التعلم فوق الجامعي مرتبط بعاملين هما الشغف والتمكن، فأما شغف الطالب أن يكون عالما فإنه يظهر مبكرا في المرحلة الابتدائية كما وضحت دراسة عملت عام 2014 استهدفت العلماء الحاملين لدرجة الدكتوراه والتابعين للجمعية الأمريكية لتقدم العلوم، ووضح كثير منهم أن طموحه للعلوم بدأ مبكرا ثم نما خلال المراحل التالية عندما تعاملوا مع المختبر أو التجارب الحقلية أو استخدموا التلسكوب...إلخ، وبالنسبة لهم كانت التطبيقات الناجحة لمفاهيم العلوم في المدرسة المتوسطة والثانوية قادحًا حقيقيًا للشغف ومؤكدًا له ليحدد مصير مسار تخصص الدكتوراه في هذه المرحلة، أما العامل الثاني فهو تمكن المتعلم من أساسياته، وهذه الأساسيات لا تبنى في الجامعة بل في المرحلة المتوسطة والثانوية، فتتزامن واتقاد الشغف مع مرور السنوات مرتبطًا بثقة في الذات من خلال الإتقان والتمكن الذي وفرته المدرسة المتخصصة، لا مهزوزا ومتأرجحا بين الرغبة والخشية من صعوبات التعلم التي تتسم بها المدرسة العادية حيث عدم توفر الفهم الكامل لنظريات العلم المبدئية، ذلك الوضع الذي يلهث فيه كل معلم لإنجاز ما لديه من كم هائل من المعرفة في عدد الحصص المحدود والتي تتزاحم معها المواد الأخرى التي هي أولا لا تمثل شغفا لدى الطالب وثانيا لا يلزم لتحصيلها ميسِّر للمعرفة (المعلم) كما هو حال المواد العلمية التطبيقية.