أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبد الرحمن: نعم تعامل عبدالعزيز بوجدانه العقلي، ومصدر وجدانه الذي هو الحس، وأما اللغة سواء أكانت عربية فصيحة، أم كانت لغة دارجة: فإنما هي أداة تعبير عن المضمون الفكري الحسي؛ وفي السبتية الماضية أومأت الى أن عبدالعزيز رحمه الله تعالى بعث برسالته الى (روزفلت) بلغة عربية فصيحة؛ وهو إنما يجيد الحديث باللغة العامية الدارجة التي هي لغة قومه؛ فالرسالة من إملاء مستشاريه؛ فمعنى ذلك أن دوره التوقيع على الخطاب لا غير.. والشبهة الثانية أن عبدالعزيز أثنى على (الديمقراطية)؛ وهي علمانية، وطالب (روزفلت) أن يعامل العرب معاملة (ديمقراطية)؛ وهو لا يؤمن بغير دين الله؛ فكيف اطمأن إلى التعامل بديمقراطية علمانية لا تؤمن بشرائع الله التي أنزلها على أنبيائه عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته؟!.
قال أبو عبدالرحمن: ههنا ضباب كثيف من الشبهات من الميسور جلاؤها لمن علم بحق أصول التشريع في دين الله، ولمن علم حق العلم المسيرة الشرعية في كل أدوار الدولة السعودية، ولمن علم حق العلم عقيدة عبدالعزيز في تعامله مع مخالفي العقيدة الشرعية التي تعمل بها الدولة السعودية، وتدعو الناس عليها، وتنافح عنها؛ ولا سيما أن عبدالعزيز لم يأت من فراغ؛ وذلك يحتاج إلى وقفات؛ وأنتم تعلمون أن كل شبهة تورد على الحقائق الناصعة يحتاج الرد عليها إلى أضعاف أضعافها؛ فالوقفة الأولى: أن طلب الإنصاف من الخصم يكون في شرع الله (بمقتضى أصول الفقه) بمطالبته وفق مذهبه الذي يدعي فيه الإنصاف؛ فإذا كنت يا (روزفلت) تعتقد أن ديمقراطيتكم تدعو إلى العدل، ونصرة الأمم المغلوبة المظلومة بتأييد الحق والعدل ودفع المظالم: فهذا أمر نرحب به؛ لأن شرع الله الذي نؤمن به ونتبعه يدعو إلى نصرة المظلوم، وإلى العدل؛ والعدل يعرف بالشرع وبالعقل؛ ومعرفته بالعقل قد استنبطها علماء المسلمين من الشرع من أمثال ابن حزم وابن تيمية وغيرهما رحمهم الله تعالى.
والوقفة الثانية: أن عبدالعزيز أسوة بدلائل شرع الله، وسيرة علماء المسلمين: يتعاملون مع معاني المفردات، ولا يتعاملون مع الكلمات إذا ألبست غير ثوبها؛ فإذا جنحت يا (روزفلت) إلى أن تلبس معنى الديمقراطية معناها العلماني عندكم؛ وهو أن تكون فكراً بإرادة بشرية لا تلتفت إلى مقتضيات شرائع الله التي أنزلها على موسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته: فنحن تبع لشرائع الله؛ إذ ارتددتم عن معاني العدل والرحمة ومناصرة المظلوم، ولقد صارح عبدالعزيز (روزفلت) بمقتضى دعوته التي رحب بها عبدالعزيز نفسه؛ فقال في رسالته إليه: «إن الولايات المتحدة الأمريكية في مناصرة اليهود في فلسطين؛ وبالنظر لما لنا من الثقة في محبتكم للعدل والإنصاف، وفي تمسك الأمة الأمريكية الحرة بأعرق التقاليد الديمقراطية المؤسسة على تأييد الحق والعدل، ونصرة الأمم المغلوبة؛ ونظراً للصلات الودية التي بين مملكتنا وحكومة الولايات المتحدة: فقد أردنا أن نلفت نظر فخامتكم إلى قضية العرب في فلسطين، وبيان حقهم المشروع فيها؛ ولنا ملء الثقة أن بياننا هذا يوضح لكم وللشعب الأمريكي قضية العرب العادلة في تلك البلاد المقدسة.. لقد ظهر لنا من البيان الذي نشر عن موقف أمريكا: أن قضية فلسطين قد نظر إليها من وجهة نظر واحدة؛ هي وجهة نظر اليهود والصهيونية، وأهملت وجهات نظر العرب؛ وقد رأينا من آثار الدعايات اليهودية واسعة النطاق: أن الشعب الأمريكي الديمقراطي قد ضلل تضليلاً عظيماً أدى إلى اعتباره مناصرة اليهود على سحق العرب في فلسطين عملاً إنسانياً في حين أن مثل ذلك: ظلم فادح وجه إلى شعب آمن مستوطن في بلاده.. كان ولا يزال يثق بعدالة الرأي العام الديمقراطي في العالم عامة؛ وفي أمريكا خاصة؛ وأنا على ثقة بأنه إذا اتضح لفخامتكم وللشعب الأمريكي حق العرب في فلسطين: فإنكم ستقومون بنصرته حق القيام.. إن الحجة التي يستند إليها اليهود في ادعاءاتهم بفلسطين هي أنهم استوطنوها حقبة من الزمن القديم، وأنهم مشتتون في بلاد العالم، وأنهم يريدون إيجاد مجتمع لهم يعيشون فيه أحراراً في فلسطين، ويستندون في عملهم على وعد تلقوه من الحكومة البريطانية سمي بوعد (بلفور).. أما دعوى اليهود التاريخية فإنه لا يوجد ما يبررها في حين أن فلسطين كانت ولا تزال مشغولة بالعرب في جميع أدوار التاريخ المتقدمة، وكان السلطان فيها لهم؛ وإذا استثنينا الفترة التي أقامها اليهود فيها، والمدةالثانية التي سيطرت فيها الإمبراطورية الرومانية عليها: فإن سلطان العرب كان[موجوداً] منذ الزمن الأقدم على فلسطين إلى زماننا هذا؛ وقد كان العرب في سائر أدوار حياتهم محافظين على الأماكن المقدسة، معظمين مقامها، محترمين لقدسيتها، قائمين بشؤونها بكل أمانة وإخلاص».
والوقفة الثالثة: أن عبدالعزيز بغض النظر عن اللغة التي يتحدث بها سواء أكانت عربية فصيحة، أم كانت بلهجة عامية دارجة: إنما يتحدث من منطلق إداركه العقلي، ومصدر إدراكه الحسي، وعلى تجربة طويلة عايشها من وعيه التاريخي بأدوار الدولة السعودية السابقة دوره الذي جمع فيه بين التمسك بدين ربه، ووعيه التاريخي؛ فلا يقبل إملاء أي أيديولوجية معارضة تملى عليه؛ وإنما استعمل بإدراكه الشرعي وإدراك اثنين وعشرين من كبار العلماء يرافقونه في حله وترحاله، ويحاورهم ويحاورونه بعقول رياضية، ثم يعمل بما عليه اتفاقهم، أو اتفاق الأغلبية، فيمضي العمل بالسياسة الشرعية التي تأكد له أنها السياسة التي يدعو إليها الشرع، ومن ههنا اختار بوعيه النير من كل بلد عربي، ومن كل بلد إسلامي مستشارين؛ وأكرمهم غاية الإكرام وتابع معهم الأحداث التاريخية لديهم، والوعي المشترك بالسياسة الشرعية.. ولم يأت عبدالعزيز من فراغ؛ فقد كان قبل استرداده حكومة أجداده يعيش في بلاط أمير الكويت مبارك ابن صباح؛ فلا يغيب عن ذاكرته أي حدث يتذاكره أمير الكويت مع الوفود من الدول الغربية [بالغين المعجمة]، ويقيم ويقوم بين جوانحه الآراء المطروحة، وإلى لقاء إن شاء الله تعالى مع بقية الوقفات في السبت القادم بمشيئة الله، والله المستعان.