أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
سمعتُ اسم الدكتور عبدالعزيز بن محمد الزير رحمه الله حينما كنتُ في أواخر أيام دراستي في كلية اللغة العربية بالرياض، متبوعًا بالثناء والإعجاب على لسان أستاذنا الدكتور محمد بن سعد بن حسين رحمه الله، وكان يقرن ذكره بقوله (ابننا) على عادِهِ في نعت تلاميذه.
ثم عرفتُه معرفة الزميل للزميل - وهو في السنّ والمنزلة والقدر والخبرة بمنزلة أستاذي الكبير - في الثلث الأول من عام 1413هـ بعد أن انتقلت للعمل في الكلية معيدًا في قسم الأدب، فكنا نلتقي لقاءات عابرة في بعض أسياب الكلية وردهاتها، أو في بعض غرف الانتظار، فلفت نظري تغليبُه الصمت على الكلام، وبشاشته الظاهرة لكل من يقابل، وخفوت صوته إذا تكلم، ولكنه كان يعطف نظر جليسه، ويستَدْني اهتمامَه بحسن تأليفه للقول، وترتيبه للفكَر، حتى لتوشك أن تقول: (إنه تعمّد أن نتحدث في هذا الموضوع الذي استعدّ له)! ولكنّ الواقع خلاف ذلك؛ إذ إن مسائل النقاش تأتي عرَضًا بلا سابق استعداد ولا تهيُّؤ من المتجالِسين.
ولكنّ معرفتي الحقَّ بأبي سعود لم تبدأ إلا في عام 1419هـ الذي كُلّفتُ فيه وكالةَ قسم الأدب، ثم زادت معرفتي به حينما صرتُ رئيسًا لهذا القسم ثلاث سنوات (1426-1429هـ) وفي الأعوام نفسها حظيت بمشاركته في مجلس الكلية، وكان عضوًا نائبًا عن قسم الأدب، وزاد حظي حين اشتركنا معًا في مجلس إدارة الجمعية العلمية السعودية للغة العربية في السنوات الثلاث المذكورات.
وفي إبان ذلك تكشّفت لي شخصية أبي سعود، فهو دقيق في مواعيده، ضابطٌ للسانه، مشارك في النقاش مشاركة هادئةً عميقةً، لا يتطلّب إلا المصلحة العامة، ولم أسمع منه ما يشي باجتلاب مصلحة خاصة، ولم يكن صاغيًا إلى أحاديث اللغو والغيبة وما ابتُليت به المجالس من أشباهها، حتى لكأنما عناه سالم بن وابصة بقوله:
أحبُّ الفتـى ينفي الفواحشَ سـمـعُـه
كأن بــه عن كلِّ فاحـشةٍ وَقْـرا
سليمَ دواعي الصدرِ لا باسطًا أذًى
ولا مـانـعًا خـيـرًا ولا قـائلًا هُجْرا
وكان من أعجب ما اتصف به احتفاظه بأوراق الاجتماعات وتعليقاته عليها، وتدوينه لما تقرره المجالس أو توصي به، فكان مرجعًا لأي قضية تُنسى، إذْ كان هو المفزَعَ إذا تلجلج الحاضرون في قضية عُرضت قبل شهور بل سنواتٍ، تنعطف إليه العيون وكأنها تقول: إيه أبا سعود، ماذا عندك؟
كان الإشراف على الرسائل العلمية ومناقشتها محتاجًا إليه، ولكنه أبى أن ينشر بحوثًا تخوّله أن يشرف وأن يناقش، وكلما حدّثته عن ذلك مستحثًّا تفلّت من التعليق بكلام عامّ، لا تأخذ منه إلا ما جُبِل عليه من التواضع وإنكار القدرة:
فواعجبا كم يدّعي الفضلَ ناقصٌ
ويا أسفا كم يُظهرُ النقصَ فاضلُ!
بل إنه أبى أن يدرّس في مرحلة الدراسات العليا، وهو أهلها، وكنتُ ألححت عليه إلحاحًا، فكان يتهرّب تهرّبًا! وهو عندي وعند غيري من خير من يُسنَد إليه التدريس في تلك المراحل العالية، ولو استجاب لكان في علمه وأسلوب تدريسه ذخيرة للدارسين.
ومن صفاته السنيّة التي أزّتْه إلى اتخاذ الموقف السالف مثاليّتُه في الكتابة، إذ كان لا يرضى بالفطِير من القول، ولا بأن يصفَّ كلامًا لا جديد فيه، فصار كثيرٌ من أفكاره رهينَ حديثه فحسب، يثير المسألة، ويدعو إلى درسها، ويدع مغالبتها ومراجعتها لغيره، ثم يتحرّفُ إلى إثارة مسألة جديدة.
وكان رحمه الله منشئًا للشعر ضنينًا بإظهاره! محبًّا لسماع شعر غيره، ومن أجل هذا كان كثيرًا ما يطلب مني ومن غيري أن نُسمعه ما ننشئ، فيهتزّ ويجامل بكلمات لبقة، وأسلوب في الاستحسان لطيف.
تدخل مكتبه فتجده عامرًا بكتب وأوراق على المكتب وبعضها ملصق بالجدران، وهو مكبٌّ على الحاسوب يتابع ويقرأ، فإذا جلس إليه أحد استثمر وقته بمناقشة قضية، ولم يفرّط بأن يستعلم عن الجديد، ويعلّق على ما يُطرح.
رحمك الله أبا سعود:
وما كان سعدٌ هلكه هلكَ واحدٍ
ولكنه بُنيان قـومٍ تهــدّمـا