محمد المشهوري
أستاذي د. عبدالعزيز الزير رحمه الله كنت أحد طلابه في محاضرة الأدب الحديث بالمستوى السابع عام 1421هـ، فتراه يدخل القاعة في وقتها بالضبط إن لم يتقدم قليلا لغرض مسح السبورة، والاستعداد بكل ما يعينه على الشرح.
وما هي إلا لحظات حتى يرسم خطا زمنيا أعلى السبورة واضعا بدايته تاريخ العصر الحديث للأدب وآخره تاريخنا الحالي. وفي كل حديث عن المدارس الشعرية، أو حياة شاعر، أو صدور كتاب مؤثر في الحركة الأدبية يضعه على ذلك الخط، ثم يقايسه بيومنا، وببداية عصر النهضة، وتتبع الأثر. وهكذا لا تراها إلا واقفا حتى يتم درسه، لا يقطعه إلا تلك النظرات التي يصعد بها فوق إطار نظارته لتنبيه المشتغلين عن الدرس.
ثم أمهلني الوقت حتى فزت بصحبته زميلا لا أنفك عن أستاذيته، فقضيت معه أربع سنوات يفيض علي من علمه، ويشفي غليل سؤالي؛ فهو أستاذ ندر وجود مثله؛ إذ ترى باب مكتبه مفتوحا مدة وجوده بالكلية لا يضيع وقته بتتبع العابرين؛ فهو منشغل بالقراءة، وتقليب الورق، وتثبيت ملحوظاته على الحائط، وإن طرق بابه أحد، لا يرد سائله، أو ينهر طالبه.
إننا أمام أستاذ يعبر بك الزمن علما ونصحا وإرشادا، بنبرته الهادئة التي تأسرك من فصحتها ورقيها وإقناعها غير المؤذي بالتعصب. وعدم انحيازه لرأي جامد، هو ما أكسبه ثقافة موسوعية. وشعاره دائما «اقرأ كل شيء» ويفسر هذا رحمه الله بأن المتعلم لا ينبغي أن يكون حبيس توصية تجعله نسخة مكررة عن غيره.
وأتذكر نقاشاتي الكثيرة معه رحمه الله، في مسائل متنوعة من أدبنا الحديث الذي لا يجاريه في تمكنه منه أحد. وبعد أن ينتهي حواري معه، يقول هذا الذي أعرف، ثم يوصيني بقراءة كتاب يخص موضوعنا، وأحيانا يرسله لي على البريد.
إن كل حديث عن هذا العالم الجليل هو ومضة خاطفة في سماء علمه وخلقه، ومهما كتبت أو تحدثت فإنني لا أفيه حقه. ويكفي دلالة على نبل هذا الرجل وخلقه ومحبة الناس له أن رحيله المفاجئ أبكانا جميعا.