د.ثريا العريض
أنا ابنة سواحل الخليج ورمله ووريثة ديلمون, ولذا لشعري نكهة الزمان وتجسيد المكان.
ليس شعراً ما يأتي باستلهام شعر فرد آخر قديم أو مجايل, وإن كان بعض الشعر عند سماعه يشعل جذوة ذاتية كامنة فيضيء بنوره الطريق إلى تعبير متفرد. وأجمل الشعر ما لا يأتي مفرطاً في الإبهام المعمي, ولا يأتي خالياً من ظلال الغموض المثير لرغبة التعمق في البحث عن المعنى. هو كتوقع الدر في المحار يتطلب الغوص. والنص الذي يخلو من الشعور الذاتي بالاحتدام بشيء غامض يتضح بعد الشعر ليس شعرا, مهما كان نظما منمقا جميلا.
شخصيا لم اقل الشعر ليسموني شاعرة ولا لجأت إليه لينقذني. ولا ليصنفوني ضمن أي فئة بعينها فكريا أو أدبيا. وبالتأكيد ليس لكي أقف على منبر وألقيه مستمتعة بالأضواء. القصيدة تأتي بنفسها متى شاءت, وتشرع ابواب التعبير كما تشق سمكة طريقها من الأعماق إلى سطح الماء فنراها.
أكتب إذن لي؟ أو تلك المختبئة في داخلي منذ أزمنة سرمدية تطل من الغياهب لتحدثني.
ولكن عشاق الشعر يحبون سماعه ويصرون أن يستمتعوا به.
تجربتي مع الشعر إيجابية ذاتية تريحني, وتفرغني من شحنة ضاغطة من المشاعر الجوانية, انفعالا بضغوط خارجية, آنية أو متراكمة أو حتى أزلية سرمدية تصهر الشعور إلى زمرد.. عبر اضطرام العلاقة المتوترة بين الذات والزمان والمكان.
نشأت في بيت هو مكتبة أدبية تاريخية ثقافية تتنامى يوميا. وقرأت روائع الأدب العالمي من الروايات والقصص والشعر في سن مبكرة. وكان والدي رحمه الله فلكيا جادا يحسب حركات النجم والبروج وله نظرية فلكية مسجلة باسمه. وفي ليالي الصيف حين ننام فوق السطح كأهل الخليج, يحكي لي ولشقيقاتي عن تشكيلات نجوم السماء والميثيولوجيا الإغريقية, فيتداخل شكل تكوينات الأبراج السماوية؛ النسر الواقع, والنسر الطائر, والجبار, وكسيوبيا المرأة المسلسلة, بالقصص والخيال , وفكرة التكون والزمن.
هكذا تسللت ثقافة الحضارة الكونية إلى دمائي ومشاعري وفكري.
لم انشر إلا ثلاثة دواوين, أو بالأحرى ديوانين. لم أتوقف عن كتابة الشعر ولدي مئات القصائد. ولكنني للضغوط المتصاعدة ولرفضي أن تسيرني إملاءات تيارات التقبل أو الرفض, توقفت عن نشر الشعر كذا حميت قصائدي فلم تسخر كشباك ينصبها المترصدون لتفسير التعابير والرؤى الفردية على هواهم حين لا تناسب رغباتهم وأفكارهم وأهواءهم. مئات القصائد بأكثر من لغة لم أنشر منها إلا قلائل. ورغم ذلك عبرت الآفاق وترجمت وتناولها النقاد باحترام.
الآن, وقد انقشعت عن سمائنا الغيوم وعن أرضنا الألغام والحمد لله سأعود كالقبرة في فضاء يخلو من العابثين والمترصدين لأحلق بأجنحة حرة وأحتفل بنشر شعري. وأسعد باحتفاء المتلقين والنقاد.