د.فوزية أبو خالد
هناك حالة من زخم المواضع التي تتقافز على حوض الكتابة وتتطاير من نوافيرها لتحط على مكتبي أمام مقعد في طائرة أو منصة في مؤتمر أو طاولة في مقهى ستاربوكس أو مصطبة بالمطبخ أو مركى بغرفة معيشة مؤقتة أو مباشرة على حضني حيث أُسند محمول الكمبيوتر مع أن الحقيقة أن هذا الجهاز الحيوي هو من يسندني.
هناك الحضور السعودي في عدد من الفعاليات الثقافية والاجتماعية والسياسية الدولية طوال شهر مارس في عدد من عواصم العالم ومدنه الصاخبة والهادئة وما صدف مشاركتي به بنيويورك وباريس، هناك جهات مبادراتها وشراكاتها من مسك وإثراء وهيئة الثقافة وكوادرها وقياداتها وكيف المشاركة وكمها وهناك انطباعات العامة والنخب خارجياً ومحلياً عن هذا الحضور وطبيعته ومدلولاته. هناك ما يحتاج لوقفة تحليلية هامة ومعمقة لمنحى التحولات على صعيدنا الوطني الداخلي وعلى صعيد العلاقات الخارجية للمملكة, هناك أنت وأنا ونحن وهم أوطانا ومجتمعات بمختلف دوائر الذات والجوار العربي والإقليمي والعالمي مما أشعر بمسؤولية التوقف عنده والكتابة عنه لأن كتابة اللحظة من داخلها ومن خلال تأملها ومن خلال موضوعية تقييم المنجز واجتراح شجاعة النقد مسؤولية كل من حمل أمانة القلم والكلمة.
علي العنيزان له واسع الرحمة وللوطن العزاء
إلا أنني في غمرة هذا الخضم الواسع للحدث وللفعاليات وأمام ما يلتف حول عودي وقلمي من أشجار الغابة وأقحوان الحقول وأشواكها لا أستطيع الكتابة بما تقتضيه الكتابة من صفاء الذهن والإخلاص ولن أستطيعها أبدا، بل لن أستطيع النظر لنفسي في المرآة إن لم أغالب الموج والوجع والسفر ومواعيد المستشفى ومواعيد الفعاليات وحالات الانخطاف وأقف لحظة صدق وصمت واحدة مع حزني العميق وحزن أسرته وأصدقائه ووطنه على فقد الرجل النبيل علي العنيزان. فبغير أن أسمح لنفسي بالتعبير عن قطرة من بحور الحزن التي أحس بها أهل الزميل العزيز علي العنيزان وصحبه ووطنه جراء فجاءة فقده وجراء فقده بحد ذاته، لن أستطيع العودة لطبيعة الكتابة ولن تعود لي طبيعة الأشياء. فقد كان الراحل على هدوئه قوي الشكيمة في الحق شديد الحضور في المواقف المبدأية.
لا يحضر وجه علي العنيزان أمامي وحيداً منذ أطل نجمه على كوكبة الطلاب العرب في الشمال الغربي وكمائن أخرى من قارة أمريكا الشمالية وجامعاتها إلا مصحوبا بخمس هالات مضيئة في نفسها وبما حولها وهي وجه زوجته المشرق رقية العنيزان على مد النظر، ووجه الحق ممثلا لكل القضايا الوطنية السامية السامقة الشاهقة التي مثلها الزميل علي العنيزان قولا وفعلا, ووجه سرب البنات والأبناء الذين حملوا منه وأمهم مكارم الأخلاق كما حملوا أسماء مستلهمة من العهود مع الأمل ومن المواعيد مع المستقبل. لا يطل اسم علي العنيزان إلا ويطل نخل القصيم والقطيف وحريملا والأحساء وغيوم أبها والباحة ومنائر مكة المكرمة والمدينة المنورة وأبحر جدة ودانات الخليج ووادي حنيفة والسرحان ورجاجيل الجوف ومرابع الطائي ومرايا الرمل وأشواقه في النفوذ والدهناء. ولا يطل وجه واسم علي العنيزان إلا وتخرج القدس وبيسان وبقية أرض فلسطين المحتلة من معازل النسيان ومن محميات المحو ليتعرف عليها شباب اليوم ويتعلقوا بها كقضية عدل لا مساومة فيه أو عليه كما فعل علي العنيزان وجيله من الشباب العربي من جدة ووجدة والرياض لمصر واليمن وكل الخليج وبلاد المغرب والشام.
كنا طلابا يوم التقيت علي ورقية نهاية السبعينات نسير على طريق ليست معبدة إلا بالأحلام وليست آهلة إلا بنا وشباب حالم مثلنا كان يخال أنه يستطيع تحويل الجور إلى عدل والشوك إلى أطواق ياسمين والضباب إلى صحو وجحيم الوطن العربي إلى جنة بجرة جناح من طائر الحرية، فيما أراد الله أن نشهد أوجع حالات التشظي وأبهى حالات الانكسار على مستوى عربي وإقليمي وعالمي من اختطاف النظام الإيراني الطائفي الانعزالي لثورة الشعب الإيراني المدنية بالسبعينات إلى اختطاف إرادة الشعب العربي في التغيير السلمي وبناء الأوطان أثناء وبعد الربيع العربي وبعد وقبل احتلال العراق ومن اتفاقيات أوسلو الاستسلامية إلى المعاهدات الانفرادية المتبرئة من دم فلسطين.... إلا أن بعض العزاء أن علي العنيزان رحل دون أن يتخلى رغم ضراوة الانهيارات عن شرف تلك القضايا في العقل والوجدان.
عزائي العميق للغالية رفيقة دربه وشريكة حياته رقية العنيزان وللبنات وللأبناء وللوطن الغالي في فقد رجل عزيمة ورأي وسلام وهو وإن رحل فإن شمس مكارم الأخلاق والوطنية التي عاش لها لن تغيب. وأكرم الله عز وجل أبو راكان بمقام عزيز في مستقر جواره وفي رحاب رحمته.
رحم الله الفنان فهد الحجيلان
فقيد الريشة واللون التشكيلي فهد الحجيلان، رحل وترك في حناجرنا أسئلة حارقة عن ظلم لحق به في رسالة أودعها لوعته جرحه وبثه وحزنه وائتمن عليها من لا تضيع عنده دعوة مظلوم. كأن رسالة الفنان فهد الحجيلان التي قرأتها كالكثيرين على صفحة الفيس بوك، دعوة كل مظلوم على كل ظالم، كأن رسالته في تظلمها تعبير عن كل مستجير من الجور. كأن رسالته اللوحة التي حدس أن الأجل لن يمهله لرسمها بالأبيض والأسود، فكتبها طلباً للإنصاف من العزيز الجبار. كأنه كتبها بكل أطياف اللون والكلمات واللغات. كأنها لمعادات كل أشكال الجور والتعدي، كأنها لوحة الاحتجاج على الظلم بدعوة لرب العدل من الأعماق. رحم الله الفنان فهد الحجيلان وأحسن العزاء لأهله ولنا ولكل محبي العدل وعشاق الريشة وتعدد وتعايش مختلف الألوان. له الإنصاف بإذن الله من فوق سبع سماوات يبلغه وهو في غياهب الغياب فترضى نفسه وينام قرير العين بعدالة الرحمن
***
الموت حق فهل من يرحلون منا إلا السباقين على تلك الدرب اللانهائية
***
أكون شمسا في الرمق الأخير من الغروب
أكون أشرعة تُطوى على مشارف نهاية الرحلة
أكون كلمة على وشك ينفد حبرها
فجأة... وجسدي مستسلم للسبات ووجداني بتقبل يتقدم منه الموات...ترف شرارة.