د. حمد بن محمد آل فريان
نعم، هذا المقال يستحق القراءة مرة بعد مرة، وقد نُشر تحت عنوان (تعدُّد الزوجات وحقوق الإنسان)، وهذا نصه:-
«لا يستطيع المجتمع أن يقوم بما فرضه الله عليه من الوفاء بحقوق اليتامى بمجرد إيجاد دور أيتام كافية لاستيعاب أعدادهم.
أولاً: إن لدور الأيتام سلبيات كثيرة، لا يبرر التسامح تجاهها إلا قيام الضرورة لوجود (دور الأيتام)، وعدم البديل لها.
ثانيًا: لأن لليتيم حاجات تتجاوز حاجة الجسم من الأكل واللباس والمأوى، كحاجات عاطفية ونفسية وتربوية، لا تقل أهميتها عن الحاجات الجسمية.. والواقع العملي وأحكام الشرع (الإسلامي) تُظهر أن هذه الحاجات في الغالب تلبَّى عندما تتزوج أم اليتيم؛ فيكون لليتيم في هذه الحالة أب بديل، وجو أسري بديل، وإخوة وأخوات من أمه، وتكون علاقة زوج الأم بربيبه أو بربيبته ((أولاد الأم من الزوج السابق)) مشابهة في الغالب بعلاقته بأولاده من صلبه، حتى أنه يحرم عليه شرعًا الزواج بربيبته، كما يحرم عليه الزواج من ابنته.
وقد تنبهت بعض الشعوب بفطرتها إلى هذا الأمر؛ فوُجد مثلًا تقليد لدى القبائل الأفغانية يلتزم فيه الأفغاني - سواء كان أعزب أو متزوجًا - بالزواج من أرملة قريبه بعد وفاته حماية للزوجة ولأولادها؛ ولذلك كان مما يلفت النظر أثناء الحرب الأفغانية - الروسية، ومع وجود الأعداد الهائلة من الأيتام، عدم قيام الحاجة الظاهرة لإنشاء دور الأيتام. وصار همُّ دور الأيتام القليلة التي أنشأها بحماس المحسنون أن تتصيد الأيتام تصيدًا.
والواقع يُظهر أن أُمّ الأيتام في الغالب لا تتزوج إلا في مجتمع يكون فيه الطلب على النساء كثيرًا، والعرض قليلاً، وهذا الوضع لا يتحقق عادة إلا في مجتمع يشيع فيه تعدُّد الزوجات.
في مثل هذا المجتمع وحده تُتاح فرصة الزواج لكل امرأة، مهما كان لديها من موانع الرغبة فيها كزوجة، مثل أن تكون أرملة (مصبية)، أي ذات أولاد.
وبالعكس، فإن المجتمعات التي لا يشيع فيها تعدد الزوجات تتحدد فيها فرصة الأرامل في الزواج، حتى أنه مع مرور الوقت يصبح زواج الأرملة عيبًا أو محرمًا؛ بحكم التقليد، كما هو الحال في القارة الهندية.
وما تقدم يشير إلى معنى أوسع للحكمة من تشريع تعدد الزوجات، يعمل فيه قانون العرض والطلب - وهو قانون طبيعي - عمله في أي مجال آخر؛ فتُتاح فيه الفرصة للزواج لكل امرأة؛ فلا يبقى فيه عوانس، ولا مطلقات، أو أرامل فقدن الأمل في الزواج بعد فَقْد أزواجهن.. وسيعمل هذا القانون الطبيعي - ولا بد - عمله؛ فيؤثر إيجابيًّا وبصورة ظاهرة على قيمة المرأة في المجتمع؛ وبالتالي على حريتها، واستيفائها حقوقها، وأن تؤتَى ما كتب الله لها، وأن تعامَل من قِبل الرجل والمجتمع بالعدل. ولعل هذا ما تشير إليه الآية الكريمة: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} (النساء:3). فتعدد الزوجات في النظر المتعمق يحمي المرأة من الظلم وانتقاص الحق.. وهذا مشاهَد في الواقع العملي؛ فالمرأة الإفريقية (جنوب الصحراء)، حيث يشيع تعدد الزوجات، تتمتع بمركز اجتماعي، وحرية، وقدرة على التصرف، بقدر لا يُتاح للمرأة في القارة الهندية مثلاً، حيث تسود عادة وحدة الزوجة. ومن الطبيعي أن المرأة الهندية عندما تنجح في الحصول على الزوج فإنها تحت سلطان شبح الخوف من فقده سوف تصبر على ظلمه، وسوف تتغاضى عن مطالبتها إياه بحقوقها قِبله، ولن تستطيع القوانين البشرية - مهما كانت كفايتها وفعاليتها - مقاومة عمل القوانين الطبيعية. ومن يتابع الصحف اليومية الهندية سوف يرى من صور الظلم الناشئ عن تدني قيمتها؛ بتأثير القانون الطبيعي للعرض والطلب.
وهذا الوضع في الهند له - ولا شك - صلة بمشكلة وأد البنات، وإجهاضهن في الهند، كما تحدث عن ذلك في 4 - 5 - 2001م ،BBC.NEW موقع بي بي سي أونلاين، وذكر صراحة أن عادة وأد البنات مشكلة قائمة في الهند لمدة طويلة؛ إذ تستمد مبررها من العادات المرتبطة بمهور الزواج، التي تجعل المرأة ذات بُعد اقتصادي.
وقد طلبت الهيئات الطبية في الهند المساعدة الدولية لمنع مليونين من حالات الإجهاض، تتم في الهند سنويًّا بسبب اكتشاف أن الجنين أنثى!
وعلى العكس؛ فالمرأة الإفريقية (جنوب الصحراء) عندما تبلغ سن الزواج تستقبلها أبواب العش الزوجي مشرعة, وتُدخلها مرفوعة الرأس كريمة؛ وسوف يتردد زوجها كثيرًا قبل أن يقدم على ظلمها أو انتقاص حقوقها أو حريتها؛ لأنه يعلم أنه إذا فارقها فلن تكون أبواب الزواج من جديد موصدة أمامها، وأن قانون العرض والطلب قد رفع قيمتها وأعطاها المقدرة على التصرف والاختيار, وسيكون زوجها أمام علةٍ فاعلة, وسبب واقعي لمعاشرتها بالمعروف.
إذا صحَّ ما سبق فإن من المنطق توقُّع انخفاض نسبة الطلاق في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات.
لن يجد الزوج نفسه في مجتمع التعدد في ظروف تحمله على الطلاق بسبب رغبته في التعدد (كما يحصل في مجتمع عدم التعدد). إن رعاية حقوق الإنسان وحمايتها أهم أو من أهم القيم الخلقية في الحضارة المعاصرة (على الأقل نظريًّا، وبصرف النظر عن التطبيق الواقعي). ولكن للمرأة حقوقًا، هي أهم لديها، أو يجب أن تكون أهم لديها من حق الإضراب، أو الانضمام إلى الاتحادات أو حتى العمل.. وأعني بذلك حق المرأة في الأمومة، وفي الزواج، وفي أن يكون لها بيت تكون مليكته الراعية فيه، وتؤدي فيه وظائفها الطبيعية.
ووجه أهمية الأمومة للمرأة يتضح من أن علم النفس عندما دخل المعامل والمختبرات على يد علماء النفس السلوكيين أثبت أن غريزة الأمومة أقوى لدى الأنثى من الجوع, ومن غريزة الجنس.
أما بالنسبة لأهمية الزواج للمرأة فتظهر عندما تتذكر أن الهدف الذي رسمه القرآن الكريم للزواج أن يسكن الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل, وأن يكون بينهما مودة ورحمة {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189), {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21), ولفظ (لِيَسْكُنَ) و(لتَسْكُنُوا) يحمل معاني واسعة, تشمل الشعور بالراحة, والمتعة, والأمن, والسلام.. وما يشبه شعور الطفل عندما تحضنه أمه. وهذا اللفظ بما يحمل من معانٍ لا مرادف له في العربية, وبما لا يوجد له مرادف في اللغات الأخرى. وإذا تحقق هذا الهدف للزواج فإنه يكون مصدرًا للسعادة، لا يمكن أن يعوَّض بأي أمر آخر اعتاد الناس أن يعتبروه مصدرًا لها.
أما بالنسبة لأهمية وجود المكان والجو الأسري, الذي تمارس فيه المرأة وظائفها التقليدية, التي تتناغم مع طبيعتها ومشاعرها ومواهبها وإحساسها بالجمال, وهو ما يعطي المرأة قدرًا كبيرًا من الشعور بالاكتفاء, الذي بدوره هو أمر ضروري للصحة النفسية.. أقول بالنسبة لأهمية ذلك للمرأة فإن الأمر لا يحتاج إلى تدليل أو إفاضة في الإيضاح.. وفي رأي أحد الخبراء، فإن ظاهرة ظهور بعض أعراض الاختلال النفسي لدى المرأة الخليجية, مثل حالات الاكتئاب والقلق والشعور بعدم الاكتفاء، وأن شيئًا غير معين ينقصها في حياتها، يلازم مثل هذه المرأة في تفكيرها اللاشعوري، ولا تدرك في عقلها الواعي أن ما ينقصها هو حرمانها من ممارسة الوظائف التقليدية للمرأة، ولو كانت هي التي اختارت هذا الحرمان.
فإذا كانت حقوق المرأة في الأمومة والزواج، وتمتعها بالجو الأسري، الذي تمارس فيه الوظائف التقليدية للمرأة.. إذا كانت هذه الحقوق بهذه الأهمية للمرأة فإن أي دولة أو مجتمع يحدد ويضيق فرصتها في الحصول على هذه الحقوق لا يمكن أن يدعي العدل في جانب المرأة، ولا العمل لصالحها وسعادتها. وقد وضح فيما سبق أن معارضة الدولة والمجتمع لتعدد الزوجات (كما هو في النظام الإسلامي) يحدد حتمًا ويضيق بصورة جدية الفرصة أمام المرأة الحصول على تلك الحقوق.
أما في العالم الإسلامي، حيث صدرت قوانين في العراق وتركيا وتونس تحرم وتجرم تعدد الزوجات!! فإنه يصعب أن توجد لهذه القوانين مبررات مفهومة؛ إذ إنه حتى فكرة النظام العام والآداب العامة لا يمكن أن تكون أساسًا لهذه القوانين، والموروث الثقافي في هذه البلدان فضلاً عن أحكام الشريعة لا يمكن أن تكون مصدرًا لهذه القوانين، بل إنها ضدها.
إذًا، فما هو التفسير لصدور هذه القوانين في العالم الإسلامي؟
الجواب: إذا استثنينا الانتهازية السياسية، والنـزق الطائش في تصوُّر العلمانية، والهوى الجامع في التفلت من أحكام الإسلام.. فإنه يمكن القول إن الدافع لإصدار تلك القوانين هو الخضوع «اللاواعي» لسلطان الثقافة الأوروبية على عقل المسلم، واعتبار القيم الخُلقية الغربية مقاييس حقيقية لما هو صالح وغير صالح، دون تمييز بين ما يكون من هذه القيم مؤسسًا على المنطق والعقل والمصلحة الواقعية، وما هو مؤسَّس على مجرد الموروث الثقافي، والانبهار بألفاظ الحرية والمساواة وكرامة الإنسان، دون أن يوجد تحديد واضح لمفاهيمها في الذهن.. وفي المقابل تعوَّد الغرب على إطلاق ألفاظ وعبارات لها إيحاءات وظلال فكرية مكروهة، مثل: (الحريم، واستعباد الرجل للمرأة وتسخيرها لمتعته، والحياة المهينة للمرأة..)، كما تعوَّد ببغاوات الشرق على ترديد هذه الألفاظ والعبارات. ويبرز التناقض عندما يقدَّم الشخص للمحاكمة بتهمة ارتكابه جريمة تعدُّد الزوجات، فتبرئه المحكمة إذا عجز الادعاء العام عن إثبات وجود عقد زواج شرعي في الحالة؛ إذ يقوم الدليل على أن الحالة حالة زواج يمنعه القانون، وليست حالة زنى يبيحها القانون!!!
المشرِّعون لتلك القوانين يقولون: (إنما نحن مصلحون! غايتنا حماية حقوق المرأة وكرامتها وحريتها)! ولا يشعرون أن هذه القوانين تهيئ الظروف الطبيعية لحرمان المرأة من حقوقها، ولتحديد حريتها، واستلاب كرامتها.. وما كانت القوانين البشرية أبدًا قادرة على مغالبة القوانين الطبيعية، وإلغاء آثارها، ولاسيما في مجتمع تتسم فيه الأجهزة المسؤولة عن تنفيذ القوانين بالعجز والتخلف والفساد، كما هو الحال في أغلب المجتمعات فيما يسمى بالعالم الإسلامي.
إنَّ نظام تعدد الزوجات - كأي نظام اجتماعي صالح - له - بلا شك - سلبياته، وبعض هذه السلبيات راجع إلى طبيعته، ولكنها حينئذ لا توجِب إلغاءه إلا لو كانت ترجَّح على إيجابياته، وهذا غير واقع. وبعضها راجع إلى إساءة استعمال البشر، وهذه أيضًا لا تعالَج بإلغاء النظام، وإنما بالعمل على حَمْل الإنسان المسلم على عدم إساءة استعمال النظام. المنطق الصحيح والواقع العملي يشهدان بأن شيوع تعدد الزوجات في المجتمع يعطي الفرصة للزواج، مهما كانت الصعوبات والعوائق التي تقف في طريقها أمام الزواج؛ وبذلك تتوافر الحماية الاجتماعية لأم اليتامى وأولادها، ويتأثر مركز المرأة إيجابيًّا؛ فتكون أقدر على الحفاظ على حقوقها وحريتها وضمان معاملتها بالعدل.. وعموم لفظ الآية يتضمن أن نظام تعدد الزوجات عاملٌ فاعلٌ في العدل في اليتامى. وإذا كان اسم الإشارة {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} (النساء:3) راجعًا إلى كل ما سبقه فذلك يعني أن هذا النظام فاعلٌ للعدل في النساء من حيث الجملة.
المنطق الصحيح والواقع العملي يشهدان بأن المجتمع أو القانون الذي يعارض تعدد الزوجات يحدِّد فرصة المرأة في الزواج؛ فيحدد - بالتالي - فرصتها في أن تكون أُمًّا، وأن يكون لها زوج تسكن إليه، ويسكن إليها، وتنمو بينهما المودة والرحمة، ويكون لها بيت تؤدي فيه وظائفها الطبيعية بوصفها امرأة.. وكل هذه الأمور حاجات أساسية، وحقوق للمرأة، أهم لديها في واقع الحياة من عدد من الحقوق التي تضمنتها وثيقة حقوق الإنسان. فتحديد فرصة المرأة في الحصول على هذه الحاجات الأساسية، بالحد من تعدد الزوجات، انتهاكٌ واضح لحقوق الإنسان.
بحكم طبائع الأشياء، لنظام تعدد الزوجات - كأي نظام اجتماعي آخر - سلبيات، ويحدث كثيرًا أن يُساء استعماله، ولكن هذا شأن أي نظام اجتماعي صالح للعلاج، وليس بهدم النظام، إنما بمعالجة السلبيات، والعمل على تقليلها، ومكافحة إساءة الاستعمال». انتهى.
كتب المقال معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين - رحمه الله -. انظر مجلة الدعوة، العدد 1991، في 1426هـ.
وختامًا نقول: إن أمة الإسلام محظوظة بتحكيم القرآن وسُنة رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - بعامة، ومحظوظة بخاصة بولاة أمرها الذين حموا الضرورات الخمس بمقدرة وعدل، ومحظوظة بعلمائها الأجلاء.