د. جاسر الحربش
الدولة الحضارية هي تلك التي يحبها مواطنوها ويرهبها أعداؤها ويتمنون تحقيق ما وصلت إليه. بعد هزيمته أمام نابليون الفرنسي قالوا لقيصر ألمانيا إن السبب هو التعليم الفرنسي الذي يركز على الرياضيات والكيمياء والأحياء والجغرافيا والفلسفة والموسيقى، بخلاف التعليم الألماني المعتمد على الولاء والشعارات الوطنية والقوة البدنية. طلب القيصر أن يحضروا له من يجدد التعليم الألماني فجاؤوه بمواطن كان مبعداً إلى السفارة الألمانية في إيطاليا لكثرة مشاغباته هو في الأوساط التعليمية الألمانية، اسمه فون هومبولدت. قال الرجل للقيصر: جلالتكم يشرفني خدمتكم وخدمة وطني العظيم لتجديد المدرسة الألمانية لكن لي شروط. نهره القيصر قائلاً لا تنس يا سيد فون هومبولدت من تقف أمامه. أجاب: جلالتكم إنني مدرك تماماً أنني أقف أمام المواطن الألماني الأول الذي إن رفع رأسه رفعت ألمانيا كلها رأسها وإن نكسه نكست ألمانيا الرأس. وافق القيصر على تكليفه بالمهمة مودعاً إياه بسؤال عن هدفه النهائي من تجديد التعليم فقال فون هومبولدت إنه بناء ألمانيا الحضارية التي يحبها كل ألماني ويهابها كل عدو. بعد اللقاء بدأت ألمانيا في النهوض من دولة بدينة كثيرة الجعجعة إلى أقوى دولة أوروبية بعلمائها في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والصناعة والفلسفة والموسيقى، وما زالت كذلك حتى اليوم.
أي تعليم حديث يجب أن يركز على الهدف الأسمى، أي بناء الدولة الحضارية المحبوبة داخلياً المهابة خارجياً، مودعاً النظرة التقليدية للتفكير والعمل واختيار مراكز المسؤوليات بناءً على الولاء المنافق، ومتجهاً نحو مستقبل مختلف تماماً عن المعتاد.
في السعودية (وهي مركز اهتمامنا الأول في الجغرافيا العربية والإسلامية) ما زال هدف السلطات التعليمية الأول هو إرضاء التوازنات بين الدولة والحكومة والهيكلية الدينية والعقليات الاجتماعية المتناقضة في كثير من المفاهيم. المسؤول الأكبر في التعليم، أي الوزير المعين سوف يجعل معيار نجاحه كسب رضى من وضع فيه الثقة للمهمة الصعبة التحقيق، أي مهادنة الجميع وتحقيق تعليم حديث بدون إزعاج لأي طرف.
لكن المهم أن يفهم الوزير ويفهم من حوله أن إحداث نهضة علمية تنافس الدول التي تعمل بمبدأ العلم للعلم والبحث عن الحقائق الكونية يتطلب تجاوز العقليات المستفيدة من المحافظة على كامل الموروث وتخلط مفاهيمها بالحصانة الشرعية والأخلاقية مع شروط التعليم الحضاري الذي من المفترض أن يبني الدولة المحبوبة في الداخل المهابة في الخارج.
لا يمكن صنع مستقبل يواكب العصر الرقمي الذي يعمل بأجزاء الثانية وبالذكاء الاصطناعي الذي تتفوق مخرجاته على مجموع قدرات صانعيه، بناءً على مقاييس الزمن والمسافة بالراحلة والفرسخ وبمفاهيم سددوا وقاربوا. من المهم أن يدرك الجميع أن الحصانة الأخلاقية والشرعية والهيبة تنهار أمام أي هجوم علمي عدواني من الخارج، والشواهد من حولنا ماثلة للجميع.